عزيزي (م)
مرّت ألف ليلة دون أن أكاتبك، كيف حالك؟ لقد سقطتُ في الحفرة السديمية من جديد... وأنت تعرفني حين أسقط في مثل هذا النوع من الحفر: أفقد تلك الروح المرحة التي تحبها فيّ ، تفقد أيامي النهارات.. الستائر المنسدلة تفصلني عن العالم بالخارج. أعيش في عالم الليل مثل خفاش، أنا منفتح عليه تماماً: أرتدي معطفي وأخرج للتسكع، سكّيني في جيبي، صمت المدينة ليلاً جميل، لكنه مرعب، أحياناً أتخيل خروج وحش من زقاق معتم... زمن الليل ممتد وهادئ، لليل رائحة باردة ومنعشة، جرّب أن تفتح النافذة في وقت متأخر من الليل تاركاً لهذا العالم -المنفتح على احتمالات عدة- أن يدخل إلى غرفتك...
مرة استيقظتُ صباحاً! فوجدتني أمام اللاشيء البارد... أعددت لنفسي فنجان قهوة، وأخدت أجوب الشقة كالمجذوب. أنا أشرب القهوة الآن، هل مازالت القهوة تسبّب لك مغصاً؟! من كثرة الاستعمال، فقدت القهوة مفعولها التنبيهي الإيقاظي المعهود. صارت مجرد سائل ذي نكهة مميزة.
تقول أسطورة الأرصفة والجدران: "في الداخل توجد آلام وانتحارات باردة كالصقيع".
(داخلي بارد كسيبيريا).
هل مازلت تكتب الشعر؟ لا أتخيّلك سوى شاعر، كن ما تشاء لكنك عندي مجرّد شاعر. ما زلت تقرأ ذلك الشاعر الماموتي؟ منذ زمن لم أسمعك تشْعُرُ عليّ. أتذكُر عندما نشرنا في نفس الأسبوع؟ قصتي سبقت قصيدتك. نشرنا وتعانقنا، وشربنا القهوة في المقصف، أنت دخّنت وأنا اكتفيت بدخول دخان سجائرك إلى صدري... كان المقصف مكتوماً كقبر، يجمع الأنفاس والدخان، ولا يخرج هواءً. من خلال نوافذه الواطئة كنّا نرى المقاعد الخضراء والأجساد السائرة أو الواقفة.
من فعل هذا بجماجمنا؟؟
كلكم ذهبتم وتركتموني وحيداً، وأنت أوّلهم.. لكنني لا أعتب عليك، من حق كل واحد أن يتخذ طريقاً خاصاً.
لو أن لمدينتي بحراً لرميت نفسي فيه. لولا الكتابة لانتحرت.
أحاول كتابة قصة جديدة، أنا أشتغل عليها (وهذا مصطلحك المفضل). هيكلها العظمي يحوي فراغات كثيرة أتذكر كيف كنت أكتب بنشاط لا مثيل له، كيف كانت تنفرج أساريرك حينما أقرأ عليك، كنت تقهقه.
لكن الكتابة الآن تحوّلت إلى قماقم سليمانية: عصية على الكتابة.
همنغواي كان يحرق قشر البرتقال، في المدفئة، ويستلذ بفرقعتها، ليكتب. أنا لا أحب البرتقال، لا برتقال لي، برتقالتي مرة.
حلمت أنهم يرجمونني بالبرتقال حتى الموت.
أرسل إليّ أشعارك لأقرأها. اشتقت إلى شعرك.
كاتبني كلما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً، فليس لهذا القاص من يكاتبه.
كل المحبة...
أحمل الرسالة وأقرأُها، أطويها وأضعها داخل ظرف، ضمن الأظرف الكثيرة الخاصة بالرسائل.
أتجرّع ثمالة الكأس. وأفكّر في امتداد الليل.
وفي الغد، عندما كنت ماراً بجانب المكتب أبصرت الظرف، فتحته وقرأت الرسالة. دعكتها ورميتها بعيداً...
فكرتُ: عليّ التوقف عن مكاتبة الموتى...
* كاتب من المغرب