رسالة في جثة

15 سبتمبر 2015
+ الخط -
كان يمكن لشاطئ عريض وسماء زرقاء أن تكون فاتحة فيلم رومانسيّ يتعانق فيه عاشقان، فيما تسطع الشمس من بين شفاههما المتلاصقة، إيذاناً ببدء دراما عاطفية طويلة، كان يمكن ذلك لولا تلك الجثة الصغيرة التي ظهرت من بعيد في كادر الكاميرا، فأصبحت هي القصة كلها.
لم يكن في الأفق ما ينبئ بذلك التحوّل المباغت في أحداث الفيلم، لولا طفل صغير، اختار مهداً جديداً ينام عليه إلى جوار البحر، فدبّ الذعر في قلوب الناس جميعاً، وراحوا يتناقلون المشهد، ويتفقدون أطفالهم في مهودهم، والكل يخشى أن تكون الصورة الصادمة لأحد أطفاله، من دون أن يدري.
وحين تأكّد الجميع أن الطفل لا يخصّه، تنفّسوا الصعداء، ثم راحوا يستبدلون رعبهم الأول بمشاعر التعاطف مع المأساة، متخففاً من عقدة الذنب، لكي لا تتحول تلك الجثة الصغيرة إلى كابوس ليليّ يؤرق نومه.
أيضاً، كان يمكن للخاتمة أن تكون أسرع مما توقعه الجميع، خصوصاً إذا كان الموت عربياً، غير أن ما قضّ مضاجع الغرب، حصراً، أن الموت العربي صار أقرب إليهم ممّا مضى، بل غدا يحدث في عقر دولهم نفسها، يحمله مهاجرون مصممّون على فتح تلك البلدان بسلاح المأساة هذه المرة، وليس بالسيف والرمح.
وحده طفل البحر عيلان السوري الكردي من أيقظنا بموته، نحن غرقى البرّ، المشرع على الحياد، فقرع بجسده الغض الضئيل مدن الأشباح التي لم تعد تصحو إلا على منبهات سيارات نقل الأحياء إلى مقابر الوظائف والتناسل وشفط أكسجين الحياة من خراطيم النرجيلة.
وحده عيلان اختار أن ينام على صدره، محدّقاً بالأرض، لا بالسماء التي وعدته بأن يكون طيراً في الجنة، فأدرك أن من لا يتقن التحليق في وطنه لن يحصل على جناحين بعد موته. ولذا، اختار أن يلتصق بالأرض التي حدبت عليه أكثر من السماء.
ووحده عيلان من خالف وصية جده طارق بن زياد، وهو يصرخ بجنوده: "البحر من ورائكم.. والعدو أمامكم"، فاختار البحر، لأنه لم يعد ينخدع بكذبة "العدو" التي ساقها طغاة العرب طوال قرون، لتسويغ طغيانهم واستبدادهم، وليكتشف، لاحقاً، أن أعداءه من بني جلدته أشد وبالاً وتنكيلاً من الأعداء المفترضين خلف البحر، فحاول أن ينجو بنفسه من فوضى "العدو" و"الصديق"، في بلاد لم تعد تشرق فيها الشمس في رابعة النهار.
اختار عيلان أن يركب البحر، لكي لا يكون مطية في "بلاد العرب أوطاني"، لأنه لم يعد يرى في الوطن أكثر من علبة سردين فارغة، بعد أن جرّدها الطغاة حتى من ملابسها الداخلية، ولم يعد يبالي بهذه الأوطان ونفاق الشعراء الذين حاولوا إقناعه بأن "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة"، لأنه أدرك أن الكرامة هي الوطن، ولو كانت في بلاد "العدو".
ركب عيلان البحر، حين رأى أنه وسيلته الوحيدة للنجاة بطفولته من بلاد أصبحت تدرب أبناءها على تنفيذ الإعدامات في الشوارع، وعلى حمل السلاح قبل زجاجة الحليب.
كان للبحر رأي آخر، آثر أن يجعل من جثة الطفل زجاجة تحمل رسائل موجهة إلى فلول الضمائر الإنسانية التي أفلحت في غضّ الطرف عن مأساة اللاجئين السوريين، حتى ظهرت تلك الجثة الصادمة على الشاطئ. ولا حاجة لاستعراض الرسالة الموجهة إلى دعاة حقوق الإنسان في العالم الغربي الذي أوصد أبوابه أمام موجات اللجوء السورية، ولم يقبل منها غير النزر اليسير.
أما الرسالة الأهم، فموجهة إلى العرب أنفسهم، وقوامها أنكم أنتم، أيضاً، جثث منثورة في صحاري الذل والطاعة العمياء لطغاتكم، ولن تدخلوا في كادر عدسة الحرية، حتى تتمردوا على شروط الحظائر وقنن الدجاج، ولم يعد أمامكم وخلفكم غير "عدوكم"، فاختاروا بين حتفين ما يليق بالحرية.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.