رسالة انتحار غير منقحة

16 سبتمبر 2018
+ الخط -


عزيزتي، إنني أشبهك، مسجون في كابوس، خائف أرتعد، إنك جميلة في معاناتك، أعتقد بأنك تعانين من الضجيج المزعج المدوي في رأسك هذه الليلة.. أليس كذلك؟

أفكر بأن أرمي بنفسي من الشرفة، رأسي الثقيل أولاً، من ثم باقي جسدي، تتهشم جمجمتي، ولكن قبل هذه الفكرة - أقصد الانتحار - والتي تراودني أو تصاحبني على الدوام، كنت قد انتهيت من طلي جدران غرفتي للمرة الثالثة، اخترت اللون الأصفر هذه المرة، إنني منهك جسدياً ومفعم بالحياة عقلياً.

استلقيت على سريري، أدخن بشراهة ولا غد لأفكر فيه، أنا والدخان وعنكبوتة عملاقة في بيتها الواهن ظهرت كلمة أجنبية في الفص الأمامي من مخي، في المنطقة المسؤولة عن الوظائف العليا تحديدا STIGMA مرت بأحرفها العريضة، رددتها مهمهما كي لا أنساها أغنية: "بعض الأشياء تظل لفترة طويلة"، لدانييل جونستون، تصدح في الفضاء.

وصلت إلى مكتبتي، أخذت أحد القواميس المعروفة، تباً، تلوّن الغلاف بالأصفر، لعقت إبهامي ومسحت الطلاء، بقعة مستعصية كتلك الموسومة على أحد أرجل العنكبوتة أو كالبقع التي في عقلي، فركت وفركت حتى شعرت بالألم وهو يصعد تدريجيا من إبهامي إلى الجزء الخارجي من ذراعي اليمنى.


بحثت عن معنى الكلمة، قرأت، أثر الجرح، الجزء الأعلى من مدقة الزهرة، علامات كالتي أحدثتها المسامير في جسد المسيح عند صلبه، وصمة العار، ندبة، تساءلت لمَ خطرت هذه الكلمة لي؟ لا يهم، لا شيء يهم، رميت القاموس من يدي بجزع ومشيت كالميت الذي بعث للتو من موته العتيق إلى مرآتي القبيحة، نظرت فيها ومن خلالها إلى روحي وإذا بوحش عيناه محتقنتان يبدو كئيباً، كسرت المرآة وأخذت الدموع بالانهمار، ملامحها مرسومة على كل دمعة.

خارت قواي من البكاء والعويل، أعتقد بأنني أخسر المعركة، لا أريد أن أموت، أريد أن أبقى بينكم على وجه أرضنا هذه في هذه الساعة، أسبح في هذه المجرة، أسبح في عينيها، أتحدث مع الغرباء، أسامر العنكبوتة المجروحة مجددا، أسرد الحكايات وأقذف بمائي عليها لأخصبها بخيال لا نهاية له.

أعتكف مع المثقفين، أتمنى أن يكون وجودي خالصا لكم، خالصا لها، أن أحافظ على بقائي من أجلها ومن أجلكم، حاشا لله ما كانت بشر ولدي رغبة أعظم بالموت أو رغبة في معرفة كل حيثيات الطرف الآخر، ذلك فقط لأريح عقلي من الذكريات والأفكار، من سينظف غرفتي إذا ما رحلت؟ من سيرتب كتبي إذا ما غادرت؟

أرتب كتبي أبجديا ليس حبا بذلك ولكنني مجبر عليه، إذا لم تكن كتبي مرتبة حيثما شئت أو شاء عقلي المسيطر، فإنني أحس بدودة القز وهي تنهش مؤخرتي، يجب على أحدهم أن يعلم ذلك.

الآن أنا ميت، جثة ساقطة من جفنها، مضت أيام على لفظي نفسي الأخير وتوقف قلبي بعد غيابها، ولا أحد يعرف ما جرى لي غيرها، امتلأ فمي بالدم، أردت أن أنطق بالسر، سر الوجود والغاية من الحياة، أصغوا، إنني لا أشعر بالكبرياء، أعتقد بأننا نتصارع ونتنافس من أجل الحصول على الغرض نفسه، جميعنا نبحث عن سعادة لحظية تتكرر كل يوم كذلك الشعور الذي أشعر به عند مواقعتها، سعادة لحظية أو سمها حبا ملائكيا غير عذري، مناجاة يقول فيها القديس: "إلهي، خالق الخلائق، لقد شيدت هذا المسرح لتعظيمك وتبجيلك، لإجلالك أعطني القدرة لأطعن الدجى، لأغتصب كل الليالي التي تجاهلت فيها السكينة وأغفر لي زلتي العظمى، أقصد فقدان الفضول وفقدان الرغبة وقلة السؤال، ارزقني هشاشة عقل طفل، أنقذني بالموسيقى وأشعل الشموع..".

قرأت ذات يوم في لزوميات أبو العلاء المعري:
مُريدي بقائي، طالما لقي الفتى
عناء بطول العيش، والله يعلم

وفي صفحة أخرى من الديوان نفسه قرأت:
لعل الموت خير للبرايا
وإن خافوا الردى وتهيبوه

غريب هذا التنوخي، يفهم معاناة الخلائق فهماً عميقاً، ينظم الشعر بعبقرية وأريحية، يعكس الروح بالكلمات، يكتب على بحر الذات ويعزف ألحان الشجن لترقص الروح فوق نار أشعلتها شياطين المعرفة، ترقص على الرغم من جراحاتها روح تتعذب وتتغنى بأجمل المواويل، وأبو العلاء يجيب قبل أن يسأل، يحلم قبل أن يعيش، يتخيل قبل أن يكون، يداعب الوجدان بأشواك حادة، إنني أقدر فنه، أسأله بين الحين والحين: "ما الذي فعلته فوق أمنا الأرض؟"، من ثم أجيب بصوته: "لا شيء..".

لن ينتهي هذا البؤس أبداً، سأغادر نحو الربيع، ها هو الليلك ينمو، يتكدس في الدروب..