19 ابريل 2021
رسالة إلى نصر الله: جعلت نفسك عدواً للشعب السوري
سماحة السيد حسن نصر الله
في رسالتي الأولى إليك، طلبت منك تنفيذ وعدك بالتدخل لحل المعضلة السورية الذي كنتَ قد قدّمته في خطبةٍ لك ألقيتها في الضاحية. وقد مهّد لرسالتي تلك حديث دار في تونس بين الدكتور علي فياض، السياسي والمثقف المقرب منك، وبيني، استمعت خلاله بأناةٍ إلى أطروحتكم حول المؤامرة التكفيرية التي يتعرّض لها النظام الممانع. يومذاك، سألته إن كنتم راغبين في وقفها، وحين رد بالإيجاب، مستشهداً بما قلته أنت، كتبت لك رسالة مفتوحة نشرتها جريدة السفير، رجوتك فيها تنفيذ وعدك. بعد أيام، أتاني ردّك عن طريق الدكتور فياض: "القصّة أكبر منا".
سماحة السيد:
يبدو اليوم بوضوح أن القصّة أكبر منكم، وأن تقديرك كان صحيحاً في حينه، فلماذا، إذن، قرّرت إرسال مقاتلي حزب الله إلى سورية، إلى مكانٍ قصّتُه أكبر منكم، ليست طوع بنانكم، ولستم قادرين على اتخاذ موقفٍ مقرّرٍ أو مستقلٍّ حيالها، وإلا لكنتم حاولتم، على الأرجح، الوفاء بوعدكم المعلن، والسعي إلى حلها! لم يكن في وسعك حل قصّةٍ أكبر منكم، لكنك أرسلت، مع ذلك، رجالك إلى حربٍ، ستقتلون فيها شعباً ليس معادياً لكم، ولا يهدّدكم. كان من الجلي لكل ذي عينين، ولكم، أنها أكبر منكم بكثير، وأن المنخرطين فيها، والقائمين على إدارتها قوى عظمى تتصارع بضراوةٍ على سورية وفيها، لها من القدرات ما تستطيع معه ممارسة تصعيدٍ غير محدودٍ للقوة، واستخدام أسلحةٍ يصعب أن تجاريها أسلحتكم، المشتراة من بعضها، أو المصنوعة في إيران، فلماذا فعلت ما فعلت، وانصعت لقرارٍ كنت تعلم أن نتائجه ستكون صعبةً على رجال حزبك، أنت الذي كنت تبرز دوماً حرصك الشديد عليهم، وتعتبرهم خميرة تحرير أرض لبنان المحتلة، وطليعة جيش تحرير فلسطين؟
أعتقد أن المبرّر الأكثر قبولاً كان ما راج، يومذاك، حول تكليفٍ شرعي لا حيلة لك فيه، يلزمك انتماؤك إلى نظرية ولاية الفقيه، وانصياعك لخامنئي كولي فقيه للمسلمين بتنفيذه، من دون نقاش أو اعتراض. بذلك، تكون قد لحست كلامك عن القصة التي هي أكبر منكم، وأرسلت مقاتليك إلى مكانٍ من الخطأ إرسالهم إليه، لأن معركتهم فيه أكبر منهم، أي أنها ستكون خاسرةً بالضرورة، خصوصاً وأن قرارك بُني على معطياتٍ كان يجب أن تملي عليك عكسه. ينطبق شيء مماثلٌ على ما قلته عن حربكم ضد التكفيريين، فأنت ملزمٌ بالذهاب، مهما كانت طبيعة من سيحاربه الحزب، وليس قصة التكفيريين غير مسوّغٍ لانصياعك الحتمي لقرار الزعيم الإيراني، ورفضك القيام بأي جهدٍ لوقف مأساة سورية التي ادّعيت، دوماً، أنك أردت منعها من الامتداد إلى لبنان، وكان مما يضفي الصدقية على قولك قيامك بجهدٍ ما لوقفها في سورية.
ذلك كان سيحتسب لك، كرجل يقود معركةً ضد عدوٍّ يتطلب نجاحها تعبئة جميع القوى داخل
لبنان وخارجه، وليس الانخراط في حربٍ ضد الشعب السوري الذي عرف دوماً باحتضانه جميع من قاوموا أو قاتلوا هذا العدو، وبأن رفضه نظامه هو، في جزءٍ رئيسٍ منه، رفض لتلاعبه بالقضية الوطنية السورية، وتعايشه مع الاحتلال، وقصر ممانعته على العرب، وخصوصاً منهم عرب فلسطين وسورية والعراق ولبنان، وقيام مؤسسه حافظ الأسد بتسليم الجولان لإسرائيل عام 1967. بهذا، يكون ما قلته حول مسوّغات دخولك إلى سورية مجرّد تحريضٍ مذهبي ضد شعبٍ بكامله، استهدفته بحربك امتثالاً لأمر خامنئي بالدفاع عن نظام الأسد الطائفي، وليس لأنه كان يقاتلك، أو لأنه اعتدى على لبنان أو دخل أراضيه. ولعلمك، فأنا أفترض، هنا، ما لا يجوز قبوله، وهو أنك الجهة المسؤولة عن أمن لبنان واستقلاله، ولا حاجة بك إلى موافقة حكومته وجيشه، وبقية أطرافه السياسية ومواطنيه، على ما تتخذه من قراراتٍ تهدّد وجوده ككيان وطني، بحجة حمايته، لكنها جرّته، في الواقع، إلى حافة هاويةٍ، لن يكون قادراً على مقاومة السقوط فيها لأمد طويل، فإن سقط، لا قدّر الله، كانت نهايته كدولة وكمجتمع، علماً أن سقوطه يمكن أن يحدث في أي وقتٍ، يقرّر فيه "تكفيريو" سورية الردّ عليك، والدخول إلى لبنان للاقتصاص من حزبك الذي يقتل أطفالهم، ردّاً على شعارك الذي جعلهم تكفيريين، وبرّر، بهذه الفرية، دخوله عليهم بالسيف، وقتل أطفالهم ونسائهم وتدمير بيوتهم على رؤوس شيوخهم، واحتلال قراهم وبلداتهم، والقضاء على كثيرٍ منهم بجرمٍ لم يرتكبوه، هو اختلافهم عنه في المذهب، مع أنهم مسلمون مسالمون، كانوا طوال أعوام وعقود من المعجبين برجالك، ومن حاضنته الاجتماعية. لذلك، كرّموا الذين فرّوا من إخوتهم، شيعة لبنان، إلى سورية أيما تكريم، وتقاطروا من جميع أنحائها إلى دمشق لأخذ "حصة" مدنهم وبلداتهم منهم، وأسكنوهم في بيوتهم، ولم يتركوا أي واحدٍ منهم يبيت في العراء، أو يسكن في خيمة، أو يعاني الجوع والمرض. لم يصدّق السوريون ما شاع حول دور وشيكٍ سيلعبه حزبك في بلادهم، يناهض تطلعهم إلى الحرية، ويدعم نظامهم الفاسد والاستبدادي/ الطائفي، غير أن السوريين أدركوا، بعد غزوكم القصير، وما عاشته من مجازر وتهجير وتغيير ديمغرافي، بحجة حماية بعض القرى الشيعية التي لم تكن مهدّدة، ولم يستهدفها أحد، أن جريمتهم تكمن في رفضهم نظاماً تحرّك قادته أحقادٌ أقنعتهم أنهم يستطيعون تصحيح تاريخ عربي/ إسلامي انحرف بعد وفاة الرسول (ص)، وأن من حقهم تنصيب أنفسهم محاربين من أجل حق الإمام علي (ر) في الخلافة، وما يتطلبه ذلك من عقابٍ لا بد أن ينزل بأهل السنة، الذين أتوا ظهيرة البارحة بأبي بكر الصديق (ر) خليفة للمسلمين، عوض مستحقّها الوحيد: سيدنا الإمام علي (ك)، أو قتلوا صباح الأمس سيدنا الحسين، على كتف نهر بردى في حي الصالحية!
سماحة السيد:
لا أعتقد أنك تصدّق نفسك، وتؤمن حقاً بأنك تحارب في سورية التكفيريين، وليس المطالبين
بحرّيتهم، وبإضفاء طابع إنساني على وجودهم. إنْ كنت قد صدّقت نفسك البارحة، عليك أن تكذّبها اليوم، بعد أن أبلغك عديد من مقاتليك ما يفعله جند "الممانعة الأسدية" بالشعب السوري، وكم هي شرسة مقاومة مقاتلي الحرية ضد النظام، وكم هؤلاء "دهريون" ونزّاعون إلى العيش الحر، وأية روحٍ إنسانية تملي عليهم تصرفاتهم. ألم يخبرك من وقعوا في الأسر بما عاشوه بينهم من تعاملٍ كريم، وأي نوعٍ من البشر هم، وكم في صفوفهم من متعلمين ومحامين ومثقفين وخريجي جامعاتٍ وإداريين وموظفين سابقين وعمالٍ موصوفين وفنانين وإعلاميين، وشبان يقاتلون من أجل المستقبل، ولا يموتون في سبيل الماضي. هم مؤمنون، ولكن باعتدال السوريين المعروف الذين لطالما كرهوا العنف، وامتنعوا قروناً عن ممارسته، وثاروا لكي يضعوا حدّاً له، بين جوانب أخرى لظلمه واستبداده.
سأفترض، الآن، أنك لم تلتق أحداً من رجالك العائدين من سورية. لذلك أسألك: ألم تشاهد جموع من بقوا أحياء من السوريين، وهم يهتفون للحرية وشعب سورية الواحد، في مختلف قراهم وبلداتهم التي عاشت هدنةً قصيرة، عبّروا خلالها عمّا يجيش في صدورهم، وتختزنه عقولهم من قيم ومبادئ، فإذا بهم يرفضون رفع علم تكفيري واحد، أو شعار تكفيري واحد، أو يطلقون هتافاً تكفيرياً واحداً، ويتصدّون سلمياً كعادتهم للتكفيريين الذين منعوا مظاهراتهم في بعض المناطق، وسقط منهم شهداء خلال تعرّضهم لإطلاق النار من هؤلاء؟ ألم تقنعك أعلام الثورة الخضراء أنها خيار شعبٍ، لم يرفع علماً أسود واحداً، طوال نيّف وشهر، على الرغم مما شاع، في العالم بأسره وخلال أعوام عديدة، عن تحوّل ثورة الحرية إلى المذهبية والطائفية والأصولية والإرهاب؟
أعتقد أن رجلاً له خبرتك ودرايتك يعرف معنى هذا، ويدرك أنه جانب الصواب، عندما ادّعى أنه دخل سورية لمحاربة التكفيريين، وأن من قتلهم حزب الله يختلفون عمّن تظاهروا ضد التكفير، وفي سبيل حرية شعب سورية الواحد، أي العلويين والمسيحيين والدروز والسنة والشيعة باللغة الدينية، والعرب والكرد والتركمان والشركس والأرمن والآشوريين والسريان والشيشان باللغة القومية، فهل بعد هذا تدّعي محاربة التكفيريين، وأنت تعلم أنك لا تحارب غير خصومهم ورافضيهم من السوريات والسوريين، وأن هؤلاء هم الذين يقاتلون رجالك، وهم الذين يلحقون بهم الخسائر المتزايدة، والمؤلمة، وهم الذين سيهزمونك.
بالمناسبة: ما دمنا قد وصلنا إلى الحديث عن الخسائر. أنت كنت تتحدّث عن حتمية هزيمة جيش إسرائيل في مواجهته مع حزب الله، وتفسر ذلك بعجز جيش نظامي عن هزيمة مقاتلي حرب عصابات منظمين ومصممين على القتال. لا أعتقد أن فارق القوة بين جيش إسرائيل وحزبك أصغر من فارق القوة بين حزبك والجيش السوري الحر، وغيره من قوى المقاومة التي تخوض ضدكم حرب عصابات منظمة، تتسم بأعلى قدر من التصميم.
أنت، سماحة السيد، لا تستطيع خوض حرب عصاباتٍ في سورية، لافتقارك الحاضنة الاجتماعية والمعلومات الاستخبارية وخطوط الإمداد والتموين التي تمر في مناطق صديقة، فكيف ستهزم من يقاتلونك من محاربي العصابات الذين يتفوّقون عليك في العدد، ويعيشون بين أهلهم، ويجمعون معلومات دقيقة عن مقاتليك، ويمتلكون بنية تحتية تموينية وتسليحية متماسكة؟ ألا يفسر تزايد خسائر حزبك أنه دخل نفقاً مظلماً يتخبط فيه، وها هم رجاله يسقطون قتلى، في كل مكانٍ من أرض سورية، ويقعون أسرى تنشر الصحف والتلفازات صورهم، ويتحدّثون بيأسٍ عن أوضاعهم في بلادنا، حيث هم محتلون ومرتزقة غزوا شعباً كان دوماً صديقاً لهم، يعلمون اليوم أنه قد لا يسامحهم بعد انتصار ثورته وانهيار موازين وعلاقات القوى بينه وبينكم.
والآن، ألا يحميهم ويحمي حزبكم قرارٌ تتخذونه على مسؤوليتكم الشخصية، يسحبهم من مكان ٍ
لم يكن من الجائز أصلاً ذهابهم إليه. إن قراراً كهذا سيحسب لك، وسيظهرك بمظهرٍ سياسيٍّ واقعي، وقد يبدّل ما يعتقده السوريون اليوم، وهو أنك عميل إيراني تسيّره أحقاد طائفية، كالتي تسيّر الأسد ونظامه، لم يقاتل إسرائيل إلا ليحوز على مكانةٍ معنويةٍ تمكّنه من مقاتلة العرب بحد أدنى من الاعتراض، لكونه بطلاً قومياً، حقق حزبه ما لم يستطع جيشٌ عربي تحقيقه، وكان على حقٍّ في ما فعله ضد إسرائيل، فلا بد أن يكون على حقٍّ أيضاً في معاركه الإيرانية ضد العرب عامة، والسوريين بصورة خاصة؟
أليس انسحابكم بقرارٍ مستقل أفضل لكم من الانسحاب تطبيقاً لقرارٍ إيراني أو روسي، أو بسبب تصاعد القتال إلى حدٍّ يتحدّى قدراتكم التي تتآكل بسرعة، بينما تتأكد قطاعاتٌ أوسع فأوسع من عرب ومسلمي زماننا أنكم مجرد طعام مدافع، يدفع إلى الموت، بدل جنود إيران التي تستخدمكم وحداتٍ احتياطية من جيشها، وتمارس بواسطتكم مهامّ يقوم بها عادةً مرتزقة يقتلون الناس على الهوية، مثلما تفعلون اليوم في بلادنا.
سماحة السيد:
يخامرني شعورٌ قويٌّ بأنك تدرك هذا، وتفكّر، قبل أن تنام، في قرار يخلص أهل الجنوب والبقاع ولبنان من الكارثة التي رميت بهم إليها، والحزب الذي جعله امتثالك لخامنئي عدواً للعرب والمسلمين، بعد أن كان مفخرتهم ومناط أملهم، وجعل شخصاً مثلي يقول، ذات يوم، لأعضاء في الكونغرس الأميركي، انتقدوا حزبك: "نحن ننام باطمئنان في دمشق، لأن حزب الله يحمي حياتنا ويسهر على أمننا". وحين عبّروا عن رغبتهم في بقاء الأسد خشية بقاء سورية من دون جيش بعد الثورة، قال لهم: "سنُدخل حزب الله إلى الجولان كي يحمينا، ريثما نبني جيشاً جديداً. ولعلمكم، نحن نرى في حزب الله أفضل جيش لنا".
في النهاية، عندما جاء اللبنانيون إلي سورية هرباً من عدوان إسرائيل، قدم رجل أعمال من دير الزور إلى دمشق، ومعه أربعة وخمسون باصاً كبيراً لأخذ حصة المدينة من الإخوة اللبنانيين. عند وصول من صار اسمهم "ضيوف الدير" إلى المدينة الفراتية، وجدوا بانتظارهم وليمة مناسف فاخرة. بعد العشاء، سلمت كل عائلة مفتاح بيت جديد، لأن رجل الأعمال كان قد انتهى من بناء عماراتٍ جديدة باع بعضها، واستلم عربون بعضها الآخر. لكنه، وقبل ذهابه إلى دمشق، أعلم من اشتروا بيوتاً، أو دفعوا قسطاً من ثمنها أن "الضيوف" سيسكنون في بيوتهم، فإنْ كانوا يرفضون ذلك اشتراها منهم أو أعاد أقساطها مع شيء من التعويض والربح إليهم. لم يرفض أحد طلب رجل الأعمال، مع أن بعضهم كانوا ينتظرون بيوتهم الجديدة منذ أعوام. هكذا نزل "الضيوف" في مساكن جديدة معزّزين مكرّمين. هذه المدينة، يقال إنك أرسلت مقاتلين لمحاربة التكفيريين فيها. هل تضمن سماحتك أنهم لن يقتلوا تكفيرياً كهذا الرجل؟
سماحة السيد: غادر سورية، لتتوقف عن استهدافٍ مروعٍ لأناسٍ يُفترض أنهم أهلك: الشيعة والسنة والمسيحيون والدروز والآشوريون والسريان والعلويون والإيزيديون... إلخ، الذين لن يسامحوك، في حال واصلت قتل أطفالهم ونسائهم وتدمير وجودهم. أطالبك بهذا، لأنه لن يكون بعيداً، بعد الآن ذلك اليوم الذي لن تنفعك فيه إيران وتكليفات مرشدها الشرعية، لأنك وضعت نفسك في موقع العداء لشعب يهزم اليوم حزبك ومرتزقة إيران والأسد، وجيش بوتين: موقع قلما بلغه أحد قبلك، على امتداد تاريخ سورية والعرب القديم والحديث.
في رسالتي الأولى إليك، طلبت منك تنفيذ وعدك بالتدخل لحل المعضلة السورية الذي كنتَ قد قدّمته في خطبةٍ لك ألقيتها في الضاحية. وقد مهّد لرسالتي تلك حديث دار في تونس بين الدكتور علي فياض، السياسي والمثقف المقرب منك، وبيني، استمعت خلاله بأناةٍ إلى أطروحتكم حول المؤامرة التكفيرية التي يتعرّض لها النظام الممانع. يومذاك، سألته إن كنتم راغبين في وقفها، وحين رد بالإيجاب، مستشهداً بما قلته أنت، كتبت لك رسالة مفتوحة نشرتها جريدة السفير، رجوتك فيها تنفيذ وعدك. بعد أيام، أتاني ردّك عن طريق الدكتور فياض: "القصّة أكبر منا".
سماحة السيد:
يبدو اليوم بوضوح أن القصّة أكبر منكم، وأن تقديرك كان صحيحاً في حينه، فلماذا، إذن، قرّرت إرسال مقاتلي حزب الله إلى سورية، إلى مكانٍ قصّتُه أكبر منكم، ليست طوع بنانكم، ولستم قادرين على اتخاذ موقفٍ مقرّرٍ أو مستقلٍّ حيالها، وإلا لكنتم حاولتم، على الأرجح، الوفاء بوعدكم المعلن، والسعي إلى حلها! لم يكن في وسعك حل قصّةٍ أكبر منكم، لكنك أرسلت، مع ذلك، رجالك إلى حربٍ، ستقتلون فيها شعباً ليس معادياً لكم، ولا يهدّدكم. كان من الجلي لكل ذي عينين، ولكم، أنها أكبر منكم بكثير، وأن المنخرطين فيها، والقائمين على إدارتها قوى عظمى تتصارع بضراوةٍ على سورية وفيها، لها من القدرات ما تستطيع معه ممارسة تصعيدٍ غير محدودٍ للقوة، واستخدام أسلحةٍ يصعب أن تجاريها أسلحتكم، المشتراة من بعضها، أو المصنوعة في إيران، فلماذا فعلت ما فعلت، وانصعت لقرارٍ كنت تعلم أن نتائجه ستكون صعبةً على رجال حزبك، أنت الذي كنت تبرز دوماً حرصك الشديد عليهم، وتعتبرهم خميرة تحرير أرض لبنان المحتلة، وطليعة جيش تحرير فلسطين؟
أعتقد أن المبرّر الأكثر قبولاً كان ما راج، يومذاك، حول تكليفٍ شرعي لا حيلة لك فيه، يلزمك انتماؤك إلى نظرية ولاية الفقيه، وانصياعك لخامنئي كولي فقيه للمسلمين بتنفيذه، من دون نقاش أو اعتراض. بذلك، تكون قد لحست كلامك عن القصة التي هي أكبر منكم، وأرسلت مقاتليك إلى مكانٍ من الخطأ إرسالهم إليه، لأن معركتهم فيه أكبر منهم، أي أنها ستكون خاسرةً بالضرورة، خصوصاً وأن قرارك بُني على معطياتٍ كان يجب أن تملي عليك عكسه. ينطبق شيء مماثلٌ على ما قلته عن حربكم ضد التكفيريين، فأنت ملزمٌ بالذهاب، مهما كانت طبيعة من سيحاربه الحزب، وليس قصة التكفيريين غير مسوّغٍ لانصياعك الحتمي لقرار الزعيم الإيراني، ورفضك القيام بأي جهدٍ لوقف مأساة سورية التي ادّعيت، دوماً، أنك أردت منعها من الامتداد إلى لبنان، وكان مما يضفي الصدقية على قولك قيامك بجهدٍ ما لوقفها في سورية.
ذلك كان سيحتسب لك، كرجل يقود معركةً ضد عدوٍّ يتطلب نجاحها تعبئة جميع القوى داخل
سماحة السيد:
لا أعتقد أنك تصدّق نفسك، وتؤمن حقاً بأنك تحارب في سورية التكفيريين، وليس المطالبين
سأفترض، الآن، أنك لم تلتق أحداً من رجالك العائدين من سورية. لذلك أسألك: ألم تشاهد جموع من بقوا أحياء من السوريين، وهم يهتفون للحرية وشعب سورية الواحد، في مختلف قراهم وبلداتهم التي عاشت هدنةً قصيرة، عبّروا خلالها عمّا يجيش في صدورهم، وتختزنه عقولهم من قيم ومبادئ، فإذا بهم يرفضون رفع علم تكفيري واحد، أو شعار تكفيري واحد، أو يطلقون هتافاً تكفيرياً واحداً، ويتصدّون سلمياً كعادتهم للتكفيريين الذين منعوا مظاهراتهم في بعض المناطق، وسقط منهم شهداء خلال تعرّضهم لإطلاق النار من هؤلاء؟ ألم تقنعك أعلام الثورة الخضراء أنها خيار شعبٍ، لم يرفع علماً أسود واحداً، طوال نيّف وشهر، على الرغم مما شاع، في العالم بأسره وخلال أعوام عديدة، عن تحوّل ثورة الحرية إلى المذهبية والطائفية والأصولية والإرهاب؟
أعتقد أن رجلاً له خبرتك ودرايتك يعرف معنى هذا، ويدرك أنه جانب الصواب، عندما ادّعى أنه دخل سورية لمحاربة التكفيريين، وأن من قتلهم حزب الله يختلفون عمّن تظاهروا ضد التكفير، وفي سبيل حرية شعب سورية الواحد، أي العلويين والمسيحيين والدروز والسنة والشيعة باللغة الدينية، والعرب والكرد والتركمان والشركس والأرمن والآشوريين والسريان والشيشان باللغة القومية، فهل بعد هذا تدّعي محاربة التكفيريين، وأنت تعلم أنك لا تحارب غير خصومهم ورافضيهم من السوريات والسوريين، وأن هؤلاء هم الذين يقاتلون رجالك، وهم الذين يلحقون بهم الخسائر المتزايدة، والمؤلمة، وهم الذين سيهزمونك.
بالمناسبة: ما دمنا قد وصلنا إلى الحديث عن الخسائر. أنت كنت تتحدّث عن حتمية هزيمة جيش إسرائيل في مواجهته مع حزب الله، وتفسر ذلك بعجز جيش نظامي عن هزيمة مقاتلي حرب عصابات منظمين ومصممين على القتال. لا أعتقد أن فارق القوة بين جيش إسرائيل وحزبك أصغر من فارق القوة بين حزبك والجيش السوري الحر، وغيره من قوى المقاومة التي تخوض ضدكم حرب عصابات منظمة، تتسم بأعلى قدر من التصميم.
أنت، سماحة السيد، لا تستطيع خوض حرب عصاباتٍ في سورية، لافتقارك الحاضنة الاجتماعية والمعلومات الاستخبارية وخطوط الإمداد والتموين التي تمر في مناطق صديقة، فكيف ستهزم من يقاتلونك من محاربي العصابات الذين يتفوّقون عليك في العدد، ويعيشون بين أهلهم، ويجمعون معلومات دقيقة عن مقاتليك، ويمتلكون بنية تحتية تموينية وتسليحية متماسكة؟ ألا يفسر تزايد خسائر حزبك أنه دخل نفقاً مظلماً يتخبط فيه، وها هم رجاله يسقطون قتلى، في كل مكانٍ من أرض سورية، ويقعون أسرى تنشر الصحف والتلفازات صورهم، ويتحدّثون بيأسٍ عن أوضاعهم في بلادنا، حيث هم محتلون ومرتزقة غزوا شعباً كان دوماً صديقاً لهم، يعلمون اليوم أنه قد لا يسامحهم بعد انتصار ثورته وانهيار موازين وعلاقات القوى بينه وبينكم.
والآن، ألا يحميهم ويحمي حزبكم قرارٌ تتخذونه على مسؤوليتكم الشخصية، يسحبهم من مكان ٍ
أليس انسحابكم بقرارٍ مستقل أفضل لكم من الانسحاب تطبيقاً لقرارٍ إيراني أو روسي، أو بسبب تصاعد القتال إلى حدٍّ يتحدّى قدراتكم التي تتآكل بسرعة، بينما تتأكد قطاعاتٌ أوسع فأوسع من عرب ومسلمي زماننا أنكم مجرد طعام مدافع، يدفع إلى الموت، بدل جنود إيران التي تستخدمكم وحداتٍ احتياطية من جيشها، وتمارس بواسطتكم مهامّ يقوم بها عادةً مرتزقة يقتلون الناس على الهوية، مثلما تفعلون اليوم في بلادنا.
سماحة السيد:
يخامرني شعورٌ قويٌّ بأنك تدرك هذا، وتفكّر، قبل أن تنام، في قرار يخلص أهل الجنوب والبقاع ولبنان من الكارثة التي رميت بهم إليها، والحزب الذي جعله امتثالك لخامنئي عدواً للعرب والمسلمين، بعد أن كان مفخرتهم ومناط أملهم، وجعل شخصاً مثلي يقول، ذات يوم، لأعضاء في الكونغرس الأميركي، انتقدوا حزبك: "نحن ننام باطمئنان في دمشق، لأن حزب الله يحمي حياتنا ويسهر على أمننا". وحين عبّروا عن رغبتهم في بقاء الأسد خشية بقاء سورية من دون جيش بعد الثورة، قال لهم: "سنُدخل حزب الله إلى الجولان كي يحمينا، ريثما نبني جيشاً جديداً. ولعلمكم، نحن نرى في حزب الله أفضل جيش لنا".
في النهاية، عندما جاء اللبنانيون إلي سورية هرباً من عدوان إسرائيل، قدم رجل أعمال من دير الزور إلى دمشق، ومعه أربعة وخمسون باصاً كبيراً لأخذ حصة المدينة من الإخوة اللبنانيين. عند وصول من صار اسمهم "ضيوف الدير" إلى المدينة الفراتية، وجدوا بانتظارهم وليمة مناسف فاخرة. بعد العشاء، سلمت كل عائلة مفتاح بيت جديد، لأن رجل الأعمال كان قد انتهى من بناء عماراتٍ جديدة باع بعضها، واستلم عربون بعضها الآخر. لكنه، وقبل ذهابه إلى دمشق، أعلم من اشتروا بيوتاً، أو دفعوا قسطاً من ثمنها أن "الضيوف" سيسكنون في بيوتهم، فإنْ كانوا يرفضون ذلك اشتراها منهم أو أعاد أقساطها مع شيء من التعويض والربح إليهم. لم يرفض أحد طلب رجل الأعمال، مع أن بعضهم كانوا ينتظرون بيوتهم الجديدة منذ أعوام. هكذا نزل "الضيوف" في مساكن جديدة معزّزين مكرّمين. هذه المدينة، يقال إنك أرسلت مقاتلين لمحاربة التكفيريين فيها. هل تضمن سماحتك أنهم لن يقتلوا تكفيرياً كهذا الرجل؟
سماحة السيد: غادر سورية، لتتوقف عن استهدافٍ مروعٍ لأناسٍ يُفترض أنهم أهلك: الشيعة والسنة والمسيحيون والدروز والآشوريون والسريان والعلويون والإيزيديون... إلخ، الذين لن يسامحوك، في حال واصلت قتل أطفالهم ونسائهم وتدمير وجودهم. أطالبك بهذا، لأنه لن يكون بعيداً، بعد الآن ذلك اليوم الذي لن تنفعك فيه إيران وتكليفات مرشدها الشرعية، لأنك وضعت نفسك في موقع العداء لشعب يهزم اليوم حزبك ومرتزقة إيران والأسد، وجيش بوتين: موقع قلما بلغه أحد قبلك، على امتداد تاريخ سورية والعرب القديم والحديث.