رسالة إلى خائن

02 ابريل 2018
+ الخط -
استشرى بطش حسان التُّبعي، ملك اليمن، ولاذ النَّاس بعد حيرة بأخيه عمرو؛ فجمع القوم وأصدر حكمه بتصفية الملك! أصدر عمرو الحكم بالقضاء على أخيه، ولم يفعل ذلك نصرة للشعب المكلوم، بل طمعًا في كرسي أخيه. ارتأى العوام الفرج في الإطاحة بحسان، واستبشروا بالقرار إلا رجلًا يدعى "ذو رُعين الحميري".

أشار ذو رعين على عمرو أن ينصح أخاه؛ فهو أقرب النَّاس إليه وأحرى أن يستمع الملك لقوله. لم تلق نصيحة الرجل أذنًا صاغية؛ فالكرسي قد زيَّن لعمرو قتل أخيه. دون هوادة رمى أتباع عمرو الناصحَ الأمين بالخيانة العظمى، وممالأة الطاغية والتملُّق له وأوسعوه ذمًّا. جرت الأحداث بسرعة الضوء، وأطاح عمرو بأخيه بدمٍ بارد، وجاء المشاركون في اقتلاع حسان بالأمس، وكلُّهم يرجو نصيبه من الوليمة.

لم يحفل عمرو بالقوم وأغلظ لهم القول، استعملهم ممرًا وصل به لغرضه، ولم يعد بحاجة لهم، أو هكذا توهم. الحمقى ظنوا أنه سيخلع عليهم المناصب ويُمطرهم بالمال، لكن المستجير بعمروٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فنفخوا في أبواقهم وكشروا عن أنيابهم، وأشاعوا في الناس أن عمرًا أسوأ من أخيه، وأنه دبَّر مؤامرة قتل الملك ليحل محله، وأن الحديث عن الإصلاحات والشفافية والخطط المستقبلية والاستراتيجية والبطيخية مجرد "ضحك على الدقون".


بدا لعمرو أن يتخلص من إزعاج أصدقاء الأمس بعدما انقلبوا عليه، وقد قلَّبوا له الأمور وأذاعوا في الناس سوءته؛ فقتلهم واحدًا تلو الآخر، وساعدته ترسانة إعلامية رخيصة يتزعمها محام قدير! حانت ساعة ذي عين؛ فوقف بين يدي الملك وقال: يا مولاي! إن لي عندك أمانةً في صحيفة استودعتها خازنك؛ فنادى عمرو قائلًا: عليَّ بأمانته! ففضَّ الصحيفة وقرأ ما بها فإذا ببيتي شعر:
ألا من يشتري سهرًا بنوم سعيدٌ من ينامُ قريرَ عين
فإما حميرٌ غدرت وخانت فمعذرةُ الإله لذي رعين

أدرك الملك بعد فوات الأوان أن الحميري كان ينصح لله وللمصلحة العامة، فصفح عنه وقلده الوزارة وجعله موضع رعايته واستشارته. كان صدق النصح وسيلة ذي رعين لحقن دمه، وسبيلًا لرفعة مكانته عند الملك، في حين أن من أمّلوا المناصب ونافقوا وتخابثوا، كانت عاقبة أمرهم خسرًا وانقلب أملهم ألمًا وبؤسًا عليهم. المصلحة الشخصية قد تدفع المرء لما فيه عليه مقال، وقد تزج به في أتون الجشع والبطش، وهو يتعامى عن ساعة الحساب. إصلاح الموجود خير من انتظار المفقود؛ فإن أخطأ أخوك، فبادر بنصحه واخلص له في النصيحة، ولا تطعنه في ظهره وتخنه برخص التراب.

وقد دخل رجلٌ من أشراف العرب على بعض الملوك فسأله عن أخيه، فأوقعَ به يعيبه ويشتمه، وكان في المجلس رجلٌ يشنؤه (يبغضه) فشرع في القول معه، فقال له: مَهْلًا! إني لآكلُ لحمي ولا أدعه لآكل. ليس اختلاف وجهات النظر بينك وبين صديقك جريمة، ولكن الجريمة أن تخاتله وتغدر به، أو أن تغلي مراجل الحقد والضغينة في قلبك عليه، وأن تتربص به الدوائر لتجهز عليه. خيانتك لن تغفر لك، وسينقلب مكرك عليك، ويكفيك عارًا أن توصم بالغدر.

يمكنك أن تملأ الأرض ضجيجًا بالكلام ليل نهار، لكن هذا لا يعادل مثقال ذرة من الفعل؛ فالأفعال أعلى صوتًا من الأقوال. إذا أفعالك أشارت لخيانةٍ ارتكبتها في حق صديقك أو بيتك أو وطنك، فلا وزن لك ولا كرامة ولن يثق بك عاقل على وجه الأرض. خان يهوذا الإسخريوطي، وبروتس، وأبي علقمة، وابن السوداء، وابن العلقمي، وشاوشيسكو، وجين فوندا، والقائمة طويلة؛ فلعنة الله على كلِّ خائن، والله المنتقم.
دلالات