رسالة إلى تلاميذ الصف الأول الابتدائي

12 ابريل 2016
الكاتب وأبطال فيلمه "غرفة الصف الطائرة" (تصوير: أولشتاين بيلد)
+ الخط -

أعزائي التلاميذ،

ها أنتم الآن لأول مرة في المدرسة، وقد وزِّعتم على المقاعد، إما حسب الحروف الأبجدية أو حسب طول قامة كل منكم. آمل أن منظر رؤوسكم الذي يذكّرني بالفطر البري مردّه فقط إلى موسم الخريف الذي نحن فيه الآن.

فبدلاً من أن تكونوا سعداء، أرى الآن أن بعضكم يتململ في جلسته يميناً أو شمالاً، وكأنه جالس فوق صفيح ساخن. بينما يبدو بعضكم الآخر وكأنّه مثبّت بصمغ قوي على مقعده.

بعضكم يقهقه ضاحكاً لسبب غير معروف، بينما يجلس أحدكم ساهماً في الوسط تعتريه الدهشة بسبب ما يراه على السبورة السوداء، وكأنه ينظر إلى ملامح مستقبله الغامض. لا يمكنني القول إن الغريزة قد خانتكم.

لقد حلّت ساعة البدء الآن. سلّمتْكُم عائلاتكم بتردُّد إلى المدارس التي تشرف عليها الدولة، لتبدأ منذ الآن حياتكم الملتزمة بالوقت، بعد أن انقضت طريقة حياتكم العفوية. للتو، دخلتم أنتم أيضاً إلى الشبكة المعقدة المتألفة من الأرقام والقوانين والتراتبية وتنظيم ساعات الواجبات.

فمنذ لحظة دخولكم إلى المدرسة أصبحتم جزءاً من تراتبية مدرسية، أنتم في أسفلها. ما زال أمامكم طريق طويل لاجتياز المراحل المدرسية والاختبارات. ما زلتم براعم صغيرة، وعليكم التحوّل إلى فاكهة مزارع تجارية! اعتدتم على طرح أسئلة كبيرة حتى الآن، لكنهم سيضعونكم في قوالب محددة منذ الغد!

كما سبق أن فعلوا معنا أيضاً. الاقتطاع من شجرة الحياة والزجّ في مصانع التعليب الحضارية. هذا هو الطريق الذي ستسيرون فيه. لا غرابة إذاً في أن حيرتكم مما يجري حولكم تفوق رغبتكم في التعرّف إلى المحيط الجديد.

هل هناك أي مغزى من إسداء النصح لكم وأنتم ماضون في هذا الطريق؟ نصائح من شخص لم يقو هو نفسه على القيام بشيء. من رجل، مثل الآخرين، يفوح برائحة الأطعمة المعلبة؟

دعوه يحاول وأحسنوا به الظن، فهو لم ينس قط ولن ينسى تجربته في اليوم الأول من المدرسة التي بدت له مثل مجسّم لعبة لمبنى من قطع خشبية، ولكن حجمه تضاعف آلاف المرّات. تلك التجربة التي أصابته بالغم.

ها قد وصلنا الآن إلى النصيحة الهامة التي يريد إسداءها لكم ويأمل أن تكون لها قوة مقولة منقوشة على أثر تاريخي بالغ القدم والهيبة: لا تسمحوا لأحد بأن يسلبكم طفولتكم! انظروا إلى الناس من حولكم، أغلبهم يتخلّى عن طفولته مثلما يتخلى عن قبعة بالية.

ينساها كما ينسى رقم تلفون مُلغى. حياته مثل قطعة نقانق يتناولها بالتدريج، ويعتبر أن ما يأكله منها لم يعد له وجود.

يدفعونكم بحماس إلى ارتقاء المراحل المدرسية. وعندما تصلون إلى المراحل المتقدمة منها يقومون بقطع الطريق أمامكم إلى المراحل الأسفل التي سيصفونها بغير المهمة، بحيث لا يمكنكم العودة إليها.

لكن أليس من المفروض أن يمتلك الإنسان في حياته، كما في بيته، سلّما للصعود إلى الأعلى أو النزول إلى الأسفل؟ ما هي قيمة الطابق العلوي في البيت، من دون المخزن الذي يضم أشياء الماضي العتيقة أو الطابق الأرضي حيث خشخشة باب البيت وجرسه؟

لكن الناس يعيشون هكذا على الأغلب! إنهم يقيمون في الطابق العلوي من دون سلّم ولا بيت، ويضفون على أنفسهم أهمية. في الماضي كانوا أطفالاً، ثم أصبحوا كباراً، لكن ما الذي صاروا إليه الآن؟

لا تعتبروا كرسي المعلم عرشاً ولا منبراً! فالمعلم لا يجلس في مكان مرتفع كي تُصَلّوا إليه، ولكن كي يكون التواصل البصري بينكم وبينه أفضل. ليس المعلم رقيباً في مدرسة عسكرية، كما أنه ليس من صنف الآلهة. المعلم لا يعرف كل شيء، كما أنه غير قادر على معرفة كل شيء. عندما يبدو بمظهر العارف بكل شيء لا تصدقوه!

إما إذا اعترف بأنه لا يعرف كل شيء فأحبّوه! فحينها فقط يكون جديراً بحبكم. وبما أنه ليس غنياً فسيسعد بحبكم من أعماق قلبه. لدي نصيحة أخرى: لا يستطيع المعلم اجتراح المعجزات، بل إنه مجرد بستاني مهمته العناية بكم وتشذيبكم، أما النمو فهو واجبكم أنتم!

فقط مَن يكبُرُ ويبقى طفلاً هو إنسان حقيقي. لا أعرف إن كنتم تفهمونني الآن، فالأشياء البسيطة يصعب شرحها. حسناً، دعونا نتناول مثالاً صعباً، فعندها قد تتمكنون من إدراك ما أعنيه.

احترموا مَن يحترمكم! تبدو النصيحة أكثر بداهة مما هي عليه بالفعل، بل إن تحقّقها صعب المنال أحياناً. عندما كنتُ في المدرسة، كان هناك ولد في صفي، يساعد أباه في محلّ لبيع السمك. رائحة السمك كانت تفوح من الصبي المسكين، وكان اسمه "بروير"، لدرجة كانت تصيبنا بالغثيان عند جلوسه متقوّساً قرب الحائط في الصف.

رائحة السمك القوية كانت مستوطنة في شعره وملابسه ولم تفلح معها كل مرات الاستحمام. كان التلاميذ كلهم يتجنّبونه.

ورغم أنه لم يكن مذنباً، إلا أنه كان ينزوي مبتعداً عن الآخرين ومنكفئاً على نفسه، كما لو كان مصاباً بالطاعون. كان يشعر بالخجل الشديد من رائحة السمك، إلا أن خجله لم ينفعه في شيء. الآن، وبعد خمسة وأربعين عاماً، ما زلت أشعر بالغثيان كلما سمعت بالاسم "بروير". تصعب معاملة الآخرين باحترام أحياناً. كما أن المحافظة على الاحترام صعبة، إلا أن على المرء المحاولة مرة تلو أخرى.

لا تكونوا مجتهدين كثيراً! ليست هذه النصيحة موجهة إلى الكسالى منكم، بل إنها للمجتهدين فقط، وعليهم الالتفات إلى أهميتها. ليست الحياة واجبات مدرسية فقط. الإنسان يتعلّم، أما الثيران فيحشون عقولهم طوال الوقت بالمعلومات.

أتحدّث إليكم عن خبرة مسبقة. لقد كنت على وشك التحوّل إلى ثور تعلُّم، عندما كنت في المدرسة. مسألة كوني لم أتحوّل إلى ثور يكدّ طوال الوقت في المدرسة، رغم محاولاتي، ما زالت مثار دهشتي حتى اليوم.

ليس الإنسان إنساناً بذكائه فقط. يكذب مَن يدّعي عكس ذلك. ومَن يصدق هذا الكذب سيندم ذات يوم، حتى بعد تحقيقه لأروع النتائج في المدرسة. على الإنسان الاهتمام أيضاً بالرياضة والرقص والغناء، وإلا فإنه سيتحوّل إلى إنسان رأسه محشو بأفضل المعارف، ولكنه إنسان مشوّه لا أكثر.

لا تسخروا من الأغبياء! فهم ليسوا أغبياء بإرادتهم، كما أنهم ليسوا أغبياء كي تجعلوهم مصدرا للسخرية والهزء. لا تعتدوا بالضرب على مَن هو أصغر منكم أو أضعف! مَن لا يقتنع بكلامي هذا، لا أريد أن أتواصل معه بعد الآن.

لكني أريد تحذيره قليلا: لا أحد يمتلك الذكاء والقوة لدرجة أن لا أحد يمكن أن يفوقه ذكاء وقوة. عليه الانتباه لأنه هو أيضا ضعيف ومتواضع الذكاء.

شكّكوا بما هو موجود في كتبكم المدرسية أحياناً. فهي ليست منزّلة من السماء، بل أن أجزاء منها مأخوذة من كتب مدرسية عتيقة مأخوذة بدورها من كتب مدرسية أعتق منها. يُطلق البشر على ذلك اسم التقاليد.

ولكن الحقيقة مختلفة تماماً. الحرب مثلاً لا تجري كما هي موصوفة في قصائد الكتب المدرسية. إلا أن بعض الكتب المدرسية تتجاهل ذلك.

لا تصدقوا ما يُقال لكم في دروس التاريخ، إذا تحدّثت عن إنسان عاش في الماضي وكان جيداً وبطلاً مقداماً طوال الوقت. أرجوكم لا تصدقوا هذا الكلام وإلا تفاجأتم كثيراً عندما تكبرون وتدخلون معترك الحياة.

كما أن لدي شيء آخر لكم: لستم بحاجة إلى حساب الفوائد البنكية في المدرسة، رغم أنه موجود في الكتب المدرسية. فعندما كنت صغيرا كان يتوجب علينا إجراء حسابات لمعرفة أرباح فئة من عُملة اسمها الـ تالر في البنك اليوم، لو أودعها أحدهم في عام 1525 فيه. كانت تلك عمليات حسابية معقدة للغاية. ولكنها كانت مفيدة أيضا، لأن الفوائد وفوائد الفوائد كانت ستتحول إلى أكبر ثروة في العالم.

لكن التضخم الذي حدث عام 1925 كان سيحولها والبنك الذي يضمها إلى شيء عديم القيمة تماما. بيد أن حسابات الفوائد كانت ستظل، رغم ذلك، موجودة في كتب حسابات الفوائد. بعدها كانت ستأتي حقبة تغيير العُملة ليتحول التوفير وبنوك التوفير إلى شيء عديم القيمة مرة أخرى. أي إنه إخفاق آخر لكتب حسابات الفوائد البنكية. آن الأوان إذاً لشطب فصل حسابات الفوائد البنكية، مثلما تم شطب أحداث تاريخية لم تثبت صحتها.

ها أنتم تجلسون الآن موزعين حسب الحروف الأبجدية أو حسب طول القامة وترغبون بالعودة إلى منازلكم. اذهبوا إذاً أعزائي الأطفال. اسألوا أهاليكم عن الأشياء التي لم تفهموها. أما أنتم أيها الآباء والأمهات، فإذا لم تفهموا شيئاً، فاسألوا أطفالكم.

* ترجمة عن الألمانية أحمد القاسمي ورشيد بوطيب

دلالات
المساهمون