رسائل عمتي

30 يوليو 2014
مهند عُرابي / سوريا
+ الخط -

هُرست حبات الثوم تحت الدق المتواصل من القبضة المعدنية التي أحكم إمساكها كما يفعل بقذيفة يريد أن يرميها على العدو.

توالت الدقات لتخلق إيقاعاً ثقيلاً. كان الطَّرْق يتسلل إلى رأسه ويهرس أفكاره كما يهرس حبات الثوم تلك. "لقد مرت سنوات الحرب". أعاد هذه العبارة كثيراً على إيقاع الطرقات الرتيبة. بالفعل مرت السنوات، ولكن هل كانت حرباً؟ أطال التفكير في ذلك السؤال. منذ متى بدأت الحرب، الحرب قديمة جداً. لطالما فكر في الحروب التي خيضت طوال تلك السنين، وكم تبدو له سخيفة كل البطولات والأمجاد والهويات والجغرافيا والأموال التي كان يحارب من أجلها المتحاربون. ربما تعود الحرب الأولى إلى الجنة!

هل كانت تلك الحرب طاحنة، أم أنها كانت حرب لغة فقط؟ إنّ لعنته الأولى هي اللغة. اللعنة التي طاردته من حدود إلى حدود وهو يهرب من الحرب. حرب لغوية طحنت كل من اصطف وراءها. امتدت الحرب منذ ذلك الحين حتى اللحظة التي كان يهرس فيها حبات الثوم.

الحرب مسألة معقدة، ولكنها ـ لبعضهم ـ لا تحتاج الكثير من التحليل أو النقاش. ثمّة حرب وكفى!

وحينها تصبح المفاهيم أقلّ وطأة وإلحاحاً. الحرب تجعلك تختصر الوطن في خيمة، خيمة لا حنين فيها إلى الذكريات. خيمة خفيفة من الممكن أن تزور بها شواطئ العالم، وتتشمّس عند بابها القماشي، وتستعرض كل خيباتك وانكساراتك لتنظم بها قصيدة من الشعر.

الشعر أيضاً مقترن بالحرب، ولعلّ انقلاب المدارس الشعرية أتى بعد الحرب العالمية الأولى؛ "الدادائية"، و"السريالية"، جاءتا بعد حروب كبيرة.. ما الذي يجعل الشعراء أكثر صلة بالحروب؟

إن أكثر ما أعجبه في هذه الحرب أنها استطاعت تغيير لغته، وجعلت قصائده أكثر سلاسة. استطاع من خلال الحرب أن يدمّر اللغة القديمة التي كان يتحدّث بها ليخلق لغة جديدة تشبهه. المفردات إيّاها التي كانت تجعر في رأسه كرحى تدور وتعيده إلى ذات الإيقاعات والتنويعات؛ استطاع أن يتحرر منها أخيراً.

انتظر الحرب طويلاً. انتظرها مع كل يوم كان يشعر فيه بأنّ اللغة عصية، وأنّ المفردات في كل يوم تخذله. انتظرها في كل مرة أدرك فيها أنه يجعجع كمذياع يلقي "البيان رقم واحد"، ولم يكن في هذه الحرب بيان يحمل الرقم "1". ولكنها بالفعل أتت واستطاعت أن تحرّر لغته، وجعلت مفرداته أكثر طواعية. ومنذ أن بدأت مجد موتاها بالشعر.

والشعر أيضاً ما دفعه إلى أن يخرج مسرعاً ويغادر إلى أقرب مخيم لجوء. لم يأخذ شيئاً من غرفته التي تكدست فيها الكتب والأشياء التي جمعها لتدل على مضي الزمن وتبدلاته. مجموعة كبيرة من المسجلات، والكاميرات، والعدسات، والأثاث، الأشياء التي كان يعشق جمعها ليرى تبدل الإنسان مع مرور الزمن. لوحات مسروقة، وأشرطة كاسيت جمعها من أسواق "الحرامية" المنتشرة في المدينة. كانت إحدى طرق نظم أشعاره الأكثر فرادة، كما كان يقيّم ذاته، هو اختيار مفرداته من القطع المسروقة المتناقضة في هذه الأسواق. مفردات مخلوقة من صور لعائلات، أو أثاث منازل، أو كاسيتات موسيقى. وأثناء خروجه احتفظ بشيئين: صورة لامرأة عجوز كان قد اشتراها منذ عدة سنوات، وباقة من الثوم المجفف، كانت ترسل بها إليه عمته من إحدى محافظات الشمال.

دأبت عمته على إرسال الثوم. كانت تلك النبتة نبتتها المفضلة، وعلى الرغم من أنّها ذات طعم ورائحة لاذعين إلا أنّها، وفق فلسفة عمته، الأكثر شبهاً بالحياة.

ربما سرق بعض الكلمات من عمته في مديح الثوم. كانت ترسل له في كل مرة رسالة مكتوبة بخط يدها تخبره فيها عن اشتياقها إليه. عمّته هي من بقي من العائلة بعد أن مات كل أفرادها في حرب ما.

كانت إذاً حرباً، ولكنها أصغر. أو ربما لم تكن أصغر، وإنّما كان هو من لم يعها، وما دام لم يعها؛ فهي لم تكن تعنيه. أدار ظهره للحرب ومضى نحو المدينة ليخوض فيها معارك اللغة. كانت معركته الأولى هي التخلي عن لغته الريفية التي علقت في ذهنه. كانت بالنسبة له جزءاً من ماض يريد إنكاره بكل فوضاه التي حفرت في روحه كما تحفر شفرة المحراث في الأرض. ماض مُثقل بمشاعر تُكدسها عمّته في الرسائل المتكررة التي ترسلها إليه، ولكنّه لم يكن يغفل عن مديحها للثوم. كان يَعجَب لتلك اللغة التي ترسلها إليه، حيث تتفجّر بلغة شعرية رائعة. لقد شعر بالغيرة منها. كان يشعر بالغيرة منذ المرة الأولى التي أرسلت رسالة تخبره فيها عن "الثوم الحزين".


"الثوم الحزين"

"صباح الخير عميم". أول كلمة قلتها عندما تعلمت النُطق.. "عميم". أحبُّ هذه الكلمة. تذكرني بملامح وجهك التي تشبه بلاداً بلا حدود. كم اشتقت لك يا "عميم"؟

أرسلت لك القليل من المؤونة، ولم أنس الثوم. أتعرف كم أحب هذه النبتة؟ الثوم أميرٌ حزين. أبيض مثل ثلج، ولديه قلب كمرار علقم. يشبهنا الثوم، حزين، وقاسٍ، ووحيد. يشبه هذه المدينة الموحشة! يشبه الوجوه المرملة، والحيطان المبهوتة. يشبهك الثوم! أنت أميرٌ قاسٍ وحزين... أعرف أنك لن تردّ على رسائلي، ولكن انتبه للثوم، إذا لم تطبخه؛ فلا ترمِ به، بل ازرعه يا "عميم".


في كلّ مرة كان يقرأ رسائلها؛ كان يشعر بشاعرية غريبة، صادقة وغير متكلّفة. في سنوات الحرب، حربه هو، كان يخرج رسائلها ليعيد قراءتها، وقد استطاعت تلك الرسائل، رغم الحصار والقصف، أن تصل بخط يدها الأنيق. تكدست الرسائل يوماً بعد يوم، وكان يرى الحرب من خلالها. وفي كثير من الأحيان ما كان يروي تفاصيلها التي تنقلها عمته وكأنما حدثت معه. وكان ينتظر تلك الرسائل بفارغ الصبر، وفي كثير من الأحيان كان يشعر أنه هو من يكتب هذه الرسائل. كان قد فتح آخر رسالة من عمته ليعيد قراءتها:


"الحصار الخانق والثوم"

"ما عدت أعدّ الأيام؛ كلها متشابهة. بعد هذه السنين، تقدم لخطبتي أحدهم، أتتخيل يا عميم؟ أنا التي نذرت نفسي لأحبك وحدك. أنت الخيط الوحيد المتبقي من الماضي، استطعت أن أشارك حبك أحداً آخر. إنه الموت، ورغم أن الكثير من الرجال تقدموا لخطبتي، لكنني أشعر أن أنوثتي منذورة لمهابته وجلاله. ألمحه كلّ يوم، يقترب مني في الليل، ويمرر يديه على شعري المتخفي منذ عشرين سنة تحت الحجاب الحريري. وفي الصباح يوقظني من الخدر المرشوم في المسامات. يدفئ سريري الخاوي، ويدفئ وحشة المدينة وظلمتها. لم يبق في هذه المدينة سوانا، أنا، والموت، والثوم. استطعت أمس أن أطبخ بعد شهور طويلة من الجوع. الثوم كريم يا عميم. قليل من البندورة مع بضع حبات من الثوم، وتصبح الرائحة كفيلة بأن ترقق سحنات المقاتلين المتجهمة، وترسم بسمات على وجوههم، وتجمعهم بالقرب من بيتي مثل قطط متشردة تبحث عن الدفء من الأهوال التي يقاسونها. أعلّق الثوم كأطواق على صدورهم لتطرد الشر من أجوافهم. أتتخيل أنني أتحول إلى ساحرة؟ كم هذا مضحك يا عميم".


أشعاره التي نالت إعجاب الناس هي خليط من رسائل عمّته في المنفى الاختياري الذي ذهب إليه كشاعر فتكت به الحرب. كان الثوم يتسلل إلى حياته أيضاً كتعويذة. وراح ينظم من رسائل عمّته قصائد عن حربه التي لم يخضها. الحرب، والثوم، وعمّته، خلقت مجده الذي أراد.

كان الزمن يمر، والحرب تمرّ أيضاً، يمر فيها القتلى، والجرحى، والطائرات، في اللغة. الحروب خُلقت لتُدجّن في اللغة. إذاً ليس مهماً كيف تقع الحروب. المهم أنها وقعت، وقعت وثمّة من يجعل منها قصائد. قصائد تُتلى على مسامع أناس يعيشون حياتهم الاعتيادية، ويحتاجون قليلاً من التوابل الحارّة لتصبح حياتهم شهية أكثر.

عندما وصل إلى منفاه الجديد علّق الصورة التي أخذها من سوق "الحرامية" وسط المنزل الذي انتقل إليه في مدينة اللجوء الجديدة وراء البحر الجديد. وفي كل مرة سُئل عن تلك المرأة العجوز بملامح وجهها الصارمة الجميلة؛ كان يقول لهم: تلك عمتي.

كانت حبّات الثوم التي يطحنها هي الأخيرة في الباقة التي أخذها معه إلى منفاه. كان يهرس حبات الثوم وهو يحاول أن يتذكر ملامح وجه عمته. حاول جاهداً أن يتذكر ما يدله على وجهها، لكنه عبثاً حاول، فقد كانت ذاكرته تتجه بسرعة إلى ملامح المرأة العجوز التي علّق صورتها. كان يعرف أنّ عمّته جميلة، وربما اختار تلك الصورة لأن المرأة، وبالرغم من كبر سنها، إلا أنّها تبدو جميلة. كما أدرك أن الشعر الذي كان يكتبه ليس شعره. وفكّر كثيراً لماذا كان يقصي عمّته طوال تلك الفترة عن ذاكرته؟ لماذا لزمه كل هذا الهروب من أجل أن يطويها النسيان، بل حتى كي يستبدل صورتها بصورة امرأة غريبة؟ وماذا تعني كل تلك اللغة التي حاول جاهداً أن يبتكرها؟ وتذكر مراراً أن عمّته لم تكن تستخدم في وصف ما يحدث كلمة "حرب". لماذا علقت في ذهنه هذه الكلمة: الحرب! الحرب!؟ في كل مكان ثمة من يقول حرب!

إنّ أكثر ما أثار سخطه أن عمّته كانت تحمل مولده مجزرة بحجم مدينة كاملة. لم يرد خلال تلك الأعوام التي أمضاها في طفولته، ومراهقته، وشبابه، أن يحمل هذا الهمّ العام، وهو أضعف من ذلك! ولكن هل كان ذلك ذنب عمته، أم ذنب المجزرة؟ لم يتذكر منذ متى حسم قراره بأن يهرب إلى اللغة من أجل أن يتبرأ من مسؤوليته تجاه فعل ما. ما الذي كان ينبغي أن يفعله؟ ها؟

اللغة في مقابل "الفعل" تغيب. دائماً ما يكون هنالك "فعل"، وثمة من يصف ذلك "الفعل". ابتسم بسخرية عندما أدرك تهرّبه حتى من وصف "الفعل". وتساءل في نفسه: ما المعنى الحقيقي لأن تكون شاعراً، أو فناناً، إذا لم تكن قد شعرت بـ"الفعل" و"وصفته".

لم يستطع ترتيب أفكاره، ولكن صورة عمّته بدت واضحة وجلية تماماً.، وتذكّر الأشعار التي كانت تقرؤها له في طفولته. وتذكّر كم كان يحب تلك المرأة، وكم يفتقدها.

عندما أنهى دقّ حبات الثوم؛ التفت نحو التلفزيون، فرأى خبراً على إحدى المحطات الإخبارية عن الحرب التي قصف فيها أحد الأطراف منزلاً في أحد الأحياء. كان المنزل مدمراً بالكامل باستثناء باقة ثوم عُلقت على الباب كأنها طوق.

داهمته رؤية ما، كما في كل القصص التي يكون فيها للبطل بصيرة نافذة. لا لم يكن بالضبط بالضبط، ولم يكن لديه بصيرة. كلّ ما في الأمر، أنّه ميز المنزل من خلال شكل أطواق الثوم التي كانت تعلقها عمّته. لكن الرؤية داهمته متمثّلة بوجه عمته المسجّى بالقرب من الأنقاض، باسماً، نضراً، كما لو أن كل هذه السنين لم تمسه!

هل كانت هي تلك الرؤية التي انتظرها طويلاً؟ مضى نحو طاولته متهالكاً وحدّق في الرسائل الكثيرة المكدسة أمامه. أمسك ورقة بيضاء، وشعر وكأنه يكتب قصيدة للمرة الأولى في حياته.


* كاتب قصّة من سوريا

المساهمون