رسائل ضائعة

19 يوليو 2019
(فانون في بورتريه لـ فؤاد هاشمي)
+ الخط -

لم يعش فرانتز فانون طويلاً كي يرى أن الكثير من التحليلات واحتمالات تطوُّر مسارات الأحداث في البلدان التي تحرّرت من الاستعمار، أو كانت في طريقها إلى التحرُّر قد تحقّق مع الأسف. وبعض تلك المقدّمات السياسية كانت تشبه النبوءات أو كانت تحذّر من المخاطر التي تُحدق بالقوى الوطنية المناضلة، وأبرزها هي تلك التي أشار فيها إلى دور البورجوازيات الوطنية التي تعمل كوسيط تجاري مع الدول الرأسمالية: فليست أموالها هي التي تعمل، بل مهارتها في عقد الصفقات. إنها لا تستثمر أموالاً، ولا تستطيع تحقيق ذلك التجمُّع لرأس المال الضروري لقيام بورجوازية حقيقية.

أمّا الحزب الذي كان ثورياً في ما مضى، وربما قاد ثورة التحرُّر الوطني في ما مضى، فإنه يتحوّل كي يصبح رقيباً على الجماهير، لا ليتأكّد من أنها تشارك في شؤون الأمّة حقّاً، بل ليذكّرها دائماً بأن السلطة تنتظر منها الطاعة والنظام والخضوع. بينما قال إن الزعماء الذين كانوا على رأس ثورات التحرُّر، وكانوا يجسّدون آمال الشعب عامة، يتحوّلون بعد الاستقلال كي يصبحوا رؤساء عامّين لشركات المنتفعين من خيرات البلاد. إن الزعيم يوقف سير الشعب، ويعمل جاهداً إمّا على طرده من التاريخ، وإمّا على منعه من دخول التاريخ.

هذه أمثلة من تحليلات مفكّر ذي منحىً تشاؤمي، لا يقدّم الأمل الكاذب للناس، بل يحذّر في رسائل مبكرة من الواقع الفاسد واحتمالات الطعن من الخلف أو من الأمام، والغريب أن يختفي فانون من التعاملات الفكرية العربية منذ زمن بعيد؛ إذ لم يعبأ به أحد ممّن كتب عنهم، وناضل من أجلهم، وهي مفارقة مأساوية يشير إليها كاتب سيرته دافيد كوت، وفيها جانب ساخر تماماً وهو أن الأوروبيّين والأميركيّين يعرفونه أكثر مما تعرفه تلك الشعوب التي تحدّث عنها، وسمّاها "معذّبو الأرض".

هذا محبط في الحقيقة لأنه يضعنا في المواجهة مع السؤال المرير الذي يسأله الناس عن حضور الكتّاب والمفكّرين وعن دورهم وفاعليتهم في ثقافتنا وحياتنا؛ إذ كثيراً ما نصادف من يسأل: أين الكتّاب والمفكّرون مما حدث ويحدث في بلادنا؟ أين كتاباتهم؟ بينما تقول الحقيقة إن آلاف الصفحات التنويرية من قبل الكتّاب العرب وغير العرب من المتعاطفين مع قضاياهم، لم تُقرأ، ولم ينتبه إليها أحد، ويمكن معرفة الأسباب حين نقرأ كتاب فانون هذا، وحين نعلم كيف أن جميع الرسائل التحذيرية التي أرسلها ضاعت، ولم تُر، ولم ينتبه إليها أحد، وخاصة أولئك الذين ادّعوا حمل رايات التحرُّر.

في نهاية الستينيات، كان مقرَّر المطالعة للشهادة الثانوية السورية كتاب "معذَّبو الأرض" لـ فرانتز فانون، الذي ترجمه إلى العربية كلٌّ من سامي الدروبي وجمال الأتاسي، وكانت وزارة التربية قد اختصرت الكتاب، وتركت فيه ما تراه مناسباً للمطالعة من قبل الطلبة. لكن فانون مضى إلى المجهول، ولا أذكر أن واحداً من أبناء جيلي يتذكّر شيئاً من كتابه، والمفارقة المحزنة أكثر أن يكون أولئك الذين كانوا طلّاباً قد كرهوا الرجل حين بات كتابه مقرَّراً مدرسياً.

دلالات
المساهمون