تبدو القدس مختلفة في أعمال الفنانة الفلسطينية جمانة الحسيني (1932-2018) التي رحلت عن عالمنا أول أمس في باريس، حيث كانت الراحلة تميل إلى أقل القليل من التفاصيل على مساحة بيضاء وبألوان لم نعهدها في أعمال أخرى جسدت منظر العمارة المقدسية تكلّلها قبة الصخرة من بعيد.
القدس عند الحسيني، هي المدينة التي وُلدت فيها، والتي تبدو في اللوحة مكاناً نائياً جداً، تستبعد منه الإنسان وتكترث بالمشهد المألوف والمفتقد في آن. ترسمه بنفسجياً مرة وأبيض في أخرى، لا وجود للأشجار أيضاً ولا حتى القليل منها، العمارة والأسوار والأبواب والنوافذ هي الشخصيات الأساسية في أعمالها.
كانت الحسيني طالبة في مدرسة البنات في رام الله، حين أجبر الاحتلال ذويها على ترك المكان عام 1948 لاجئين إلى بيروت. لم تدرس الحسيني الفن، بل التحقت بكلية العلوم السياسية في "الجامعة الأميركية" في بيروت، وكان أول معرض شاركت فيه، معرضاً جماعياً في "متحف سرسق" عام 1960، ثم معرضاً آخر في حرم "الجامعة الأميركية"، ثم بينالي الإسكندرية ثم معرضاً في الكويت، قبل أن تقيم معرضها الشخصي الأول في لندن عام 1965.
عادت الحسيني إلى بيروت وظلّت فيها خلال الحرب الأهلية، إلى أن خرجت مع عام الاجتياح، 1982، إلى باريس، وهناك التحقت بمعهد متخصّص في فن الرسم على الزجاج، الأمر الذي علّمها ممارسة المزيد من التقشف في التفاصيل الصغيرة وإبراز الخطوط العريضة والاهتمام بالبساطة المؤثّرة.
لكن هذه القدس هي تلك التي ظهرت في الأعمال المبكرة للحسيني قبل ان تنتقل إلى مرحلة أكثر تعقيداً، وهي التجريد الذي بدأت في الاشتغال به عام 1987، حيث انتقلت من التشخيص والضوء الساطع في أعمالها إلى التجريد والعتمة، وأتت معظم أعمال هذه الفترة داكنة وغامضة واستبدلت المدينة بصور تأملية بدت كما لو أنها محاولة ولادة من جديد بعيداً عن القدس وبيروت التي ظهرت بعض تفاصيلها في أعمالها القديمة عن المدن؛ المكان اختفى من تجريد الحسيني، وحلّ محله المنفى، أو ربما أصبح للمكان شكل آخر ملتبس عليها وعلى المتلقي.
في أعمالها التجريدية تميل الحسيني إلى توزيع أشكال هندسية طافية في مساحات محدّدة، يمكن أن تكون هذه الأشكال مدينة قد خيّم عليها الليل ولا نرى من تفاصيلها سوى أشكالٍ لا نتبين تفاصيلها، كأن الفنانة انتقلت من متعة التذكر التي كنا نراها في أعمالها الأولى إلى منطقة شعورية أخرى أكثر يأساً.
علاقة الحسيني مع النحت بدأت في الخمسينيات، لكنها لم تتطوّر إلا في مرحلة لاحقة، ولا يمكن القول إن النحت أخذها بعيداً، بدأت مع الحجر قبل أن تنتقل إلى الخشب الوردي، ثم عادت واشتغلت على بعض الصخور التي جلبتها من منطقة البحر الميت، لكنها ظّلت تنتقل بين الحجر والخشب. أما مواضيع منحوتاتها فهي أيضاً القدس، مكعبات خشبية من المدينة محفورة عليها العمارة والقباب والمآذن.
ومن التقاليد الفلسطينية التي أخذتها جمانة إلى منطقتها الإبداعية، فن التطريز الفلسطيني الذي تعلّمته من والدتها وهي طفلة في القدس، فقد تعاملت الحسيني مع القماش كأنه كانفاس اللوحة ومن الخيوط الحريرية كما لو كانت ريشتها وألوانها، وعرضت عدّة قطع مطرّزة أبرزت من خلالها تفاصيل الهوية والمكان الفلسطيني وألوانه الحية، وقدمت أعمالاً في هذا السياق توضّح فيها العادات والتقاليد وكيف يمكن تمييز الحالة الاجتماعية والطبقة للمرأة من خلال أشكال التطريز المختلفة التي تزيّن ثوبها.