رحلة صعود الشيخ علي وتابعته أمّونة (1 - 2)

09 يناير 2019
+ الخط -
حين يروي المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي سيرة أمثالهما، يستخدم عادة تعبير (ظهر) في سياق يفيد المفاجأة ويشي بالغرابة والاندهاش، مع أن أمثال الشيخ علي والشيخة أمونة لا يظهران من العدم ولا يأتيان من فراغ أبداً.

كانت السنة التي ظهر فيها الشيخ علي وتابعته أمّونة سنة كبيسة لعينة ككثير من السنين التي سبقتها، والتي كان الجبرتي يجد ثقيلاً على نفسه أن يقوم بسرد كل ما وقع بها من مظالم ومصائب، فيكتفي بأن يلخص وقائعها العصيبة بعبارات من نوعية "وانقضت هذه السنة كالتي قبلها في الشدة والغلاء وقصور النيل والفتن المستمرة وتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان، وإحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات، ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهم واشتد كربهم وطفشوا من بلادهم"، وهي مظالم كان الجبرتي يدرك أنها لا تمر على الناس بسهولة، بل تقوم بتغيير نفوسهم وسلوكياتهم، فتؤدي إلى "فساد النية وتغيير القلوب ونفور الطباع وكثرة الحسد والحقد في الناس لبعضهم البعض، فيتتبع الشخص عورات أخيه ويدلي به إلى الظالم حتى خرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحرام وفُقِد الأمن".

في أوقات كالتي كتب عنها الجبرتي هذه السطور، كان طبيعياً أن يهرب الناس في أنحاء مصر من مواجهة كل هذا العناء، لينشغلوا بأخبار تلهيهم عن الهم والغم، مثل "خبر العجلة التي لها رأسان"، والتي استخدمها الأمير إبراهيم بيك لمصالحة الأمير مراد بيك بعد صراع طويل ومرير على السلطة، وقد شاع خبرها بين الناس، لدرجة أن الجبرتي لم يكتف بتدوين ما يروى عنها من حكايات، بل ذهب بصحبة صديقه السيد إسماعيل الخشاب إلى الاسطبل الذي وضعت فيه "العجلة العجيبة" والكائن ببيت أم مرزوق بيك ابن إبراهيم بيك، ليرى بأم عينه بقرة سوداء لها رأسان كاملتا الأعضاء، تأكل بفم إحدى الرأسين وتشرب بفم الرأس الثانية، فيكتب مقراً بتصديق ما سبق أن استنكره قائلاً: "فتعجبنا من عجيب صنع الله وبديع خلقته".

لم يدم تأثير "العجلة أم راسين" طويلاً على الناس، كما لم يفلح في استمرار الصلح بين مراد بيك وإبراهيم بيك، حيث تم نقض الصلح بينهما، وفشلت الوساطات المتتالية لتهدئة صراعهما المرير على السلطة الذي دفع ثمنه عموم الناس، لتتكرر انتفاضات الفقراء بفعل الغلاء الفاحش وقطع الرواتب، وكان من أشهر تلك الانتفاضات ما وقع في غرة رمضان لعام 1199 هجرية ـ الموافق 8 يوليو 1785 ـ حين ثار فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر بعد قطع رواتبهم وجرايات الخبز المعتمدة لهم، فأغلقوا أبواب الأزهر ومنعوا منه الصلوات في يوم الجمعة، فكان ذلك حدثاً جللاً هز القاهرة وما حولها، خاصة بعد أن امتد الغلق إلى مدرسة محمد بيك المجاورة للأزهر ومسجد المشهد الحسيني، وحين لم يحدث الغلق التأثير الذي رجاه المعتصمون بالأزهر، خرج المعممون والمجاورون "يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره"، ليتبعهم في ذلك الكثير من فقراء القاهرة الذين يصفهم الجبرتي من موقعه الطبقي بـ "أراذل السوقة"، لتستمر تلك الانتفاضة إلى ما بعد صلاة العشاء فقط، حيث أجبر تأثيرها السلطة الحاكمة على أن ترسل من يتفاوض مع المنتفضين قبل أن يتسع تأثير غضبهم، فيعدهم بإعادة صرف رواتبهم، "فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد".


لكن الغضب عاد ليتجدد في العام التالي، حين تكرر انقطاع الرواتب وتوقف جرايات الخبز عن مجاوري الأزهر، ليتكرر قفلهم أبواب الجامع، فيعود إليهم سليم أغا الذي كان قد فاوضهم في العام السابق، ويقنعهم بالسكون وفتح أبواب الجامع، مقابل أن تتحقق مطالبهم في اليوم التالي، وحين أدركوا أنهم قد تعرضوا للخديعة، عادوا لإغلاق الجامع ثانية، وصعدوا على منارات الأزهر يصيحون معبرين عن غضبهم وسخطهم، فأجبرت فعلتهم سليم أغا على العودة إليهم منجزاً لهم "بعض المطلوبات، وأجرى لهم الجراية أياماً، ثم انقطع ذلك وتكرر الغلق والفتح مراراً".

كانت السلطة حريصة على إرضاء مجاوري الأزهر وطلابه في كل مرة، لكي لا يقتدي عموم الناس بتصرفاتهم الغاضبة، وكان راكبو السلطة وألاضيشهم يظنون أن ما يقومون به من سياسات خرقاء في عموم البلاد لن يكون له تأثير على إحكام قبضتهم على السلطة، لذلك ظلوا "يعبثون بالأقاليم والبلاد حتى أخربوها وأتلفوا الزروعات"، دون أن تواجه تلك العربدة بثورة شعبية عارمة، وهو ما شجع الأمراء المقيمين بالقاهرة على التسلط والقمع والإمعان في مصادرة أموال الناس، وهو ما مر في حالات كثيرة دون حساب ولا عقاب، حتى قام أحد الصناجق المتنفذين واسمه حسين بيك، بالهجوم على دار تقع بمنطقة الحسينية يمتلكها رجل اسمه أحمد سالم الجزّاء، كان يتولى رئاسة دراويش الشيخ البيومي، حيث نهب حسين بيك كل شيء في دار الجزّاء، حتى "مصاغ النساء والفراش"، دون أن يعترض طريقه أحد.

كان وقع ما جرى شديداً على أهل الحسينية، الذين "ثارت جماعة منهم بسبب ما حصل في أمسه من حسين بيك"، فحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول وبأيديهم نبابيت، وكان طبيعياً أن يؤجج تحركهم غضب المغلوبين على أمرهم، فالتف حولهم من وصفهم الجبرتي بأنهم "جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية"، ولم يستطع الشيخ الدردير برغم كل ما كان له من مكانة دينية وتأثير على الناس أن يهدئ من غضبهم، فاكتفى بتهدئتهم والتضامن معهم، ليخرج المتظاهرون من نواحي الجامع الأزهر ويغلقوا أبوابه، "وتصعد طائفة منهم على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة وأغلقوا الحوانيت"، فنجح غضبهم في إخراج الشيخ الدردير من موقفه الحذر، ليقول للمنتفضين: "في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم".

أدرك المسيطرون على مقاليد الأمور أن غضب أهل الحسينية ومن تضامن معهم من فقراء القاهرة وبعض أعيانها، لن يمر بسهولة هذه المرة، ولن يكون من الحكمة أن يتم تجاهله، فلم ينتظروا حتى مطلع اليوم التالي، فذهب بعد صلاة المغرب وفد رفيع المستوى على رأسه سليم أغا مستحفظان ومحمد كتخدا أرنؤود الجلفي أحد كبار مساعدي إبراهيم بيك، ليجلسوا مع الشيخ الدردير، ويتكلموا معه بالحسنى، ويحذروه من "تضاعف الحال"، ويطلبوا من الشيخ أن يكتب قائمة بالمنهوبات التي تم أخذها من دار الجزّاء، متعهدين بأن يأتوا بها "من محل ما تكون"، وهو ما وافق عليه الشيخ الدردير الذي أوكل المنتفضون إليه مهمة التفاوض مع أولي الأمر، فقرأ الفاتحة على ذلك مع الوفد رفيع المستوى، وأبلغ ما جرى للمنتفضين، لتهدأ فورة الغضب الذي لم يعد فجأة مرتبطاً بما جرى من ظلم ونهب وعنجهية، بل أصبح مرتبطاً بمنهوبات سينتهي كل شيء حين تتم عودتها، لتقع المفاجأة في اليوم التالي، حين ذهب الشيخ الدردير في صباح اليوم التالي إلى مقر قيادة إبراهيم بيك، وانتظر حضور حسين بيك الذي قام بالنهب، وحين جاء حسين بيك، قرر أن يقلب الترابيزة على الجميع، فقال بغضب لإبراهيم بيك: "كلنا نهابون، أنت تنهب ومراد بيك ينهب وأنا أنهب كذلك"، وهو جواب يبدو أنه كان مفحماً لإبراهيم بيك ولمن معه، لدرجة أن الجبرتي لم يذكر بعدها شيئاً مما جرى في ذلك الاجتماع المرتقب سوى أربع كلمات مشحونة بالدلالات هي: "وانفض المجلس وبردت القضية".


كان من البديهي بعد ما جرى، أن يتكرر النهب وبحدة أكثر فجراً، وحين عاد مراد بيك من تجريدة ذهب بها إلى الشرق وفي صحبته "من المنهوبات من الجمال والأغنام والأبقار والجواميس وغير ذلك شيء كثير يجل عن الحصر"، كما حضرت من الصعيد "سفينة بها تمر وسمن وخلافه"، أرسل سليمان بيك الأغا ليأخذ ما فيها كله، مدعياً أن له عند أصحاب السفينة "مالاً منكسراً"، مع أن السفينة لم تكن لأولاد وافي الذين زعم ملكيتهم للسفينة، بل لجماعة من الناس يقومون ببيع تلك السلع للصعايدة من مجاوري الأزهر، والذين لم يسكتوا على ما حدث، بل "تعصبوا وأبطلوا دروس المدرسين"، فعاد الشيخ الدردير ومعه الشيخ العروسي ومحمد المصيلحي وغيرهم لتهدئة الغضب قبل أن يتفاقم، وذهبوا إلى بيت إبراهيم بيك، وتكلموا معه بحضرة سليمان بيك، وأثبتوا له أن ما نهبه لم يكن ملك أولاد وافي كما ادعى، بل لناس فقراء، "ولو كان لك عند أولاد وافي شيء فاذهب وخذه منهم"، لتنتهي المسألة بأن قام برد بعض ما نهبه وذهب الباقي إلى غير رجعة.

في أجواء عصيبة كهذه، انتشرت فيها الجريمة، وضاقت صدور الناس حتى أصبحوا يعتبرون أن العواصف الترابية تحمل عليهم غضباً من السماء سينهي عالمهم ويعجل لهم بعدالة يوم القيامة، بدأ ميلاد أسطورة شعبية بطلها الشيخ علي البكري، الذي كان يمكن أن يكون كغيره من مجاذيب القاهرة، لا يلتفت إليه أحد، ممن يرونه يمشي عرياناً في بعض الأحيان وحافياً في بعض الأحيان، ولم يكن في ذلك شيء جديد على سكان القاهرة، سوى أن علي البكري كان أطول من غيره من المجاذيب، وكان على عكسهم حليق اللحية، لكن أنظار الكثيرين بدأت تتعلق به دوناً عن غيره، حين بدأت امرأة مجهولة تسير خلف المجذوب علي البكري أينما سار، ثم بدأت بعد فترة "تخلط في ألفاظها" بشكل جذب انتباه الكثيرين، خصوصاً من بعض السيدات اللواتي أشعن أن ما جرى لها لم يكن شيئاً عادياً، بل حدث بتأثير من الشيخ علي البكري الذي ليس مجذوباً والسلام، بل هو شيخ من أولياء الله الصالحين، ولذلك فقد جذب إليه تلك المرأة، فصارت مثله من الأولياء، ولذلك بدأ البعض يعتقدون في بركتها، وأخذوا يقومون بمنحها الهدايا والعطايا، لتحل عليهم بركتها.

يحاول الجبرتي أن يكون محايداً في وصف ما جرى في تلك الأيام العجيبة، لكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك بشكل منضبط مائة في المائة، فيصف ما جرى لتلك المجذوبة المدهشة بقوله: "وثقُلت عليها الشربة، فكشفت وجهها ولبست ملابس كالرجال"، لكنها في الوقت نفسه لم تتخذ لنفسها مساراً مختلفاً عن خط سير علي البكري، الذي ظل كما هو ولم يدخل على ملامحه ولا طريقته أي تغيير، فظلت المجذوبة كاشفة الوجه تلازمه أينما توجه، ليتحولا مع الوقت من فرجة إلى قدوة، فيتبعهما "هوام العوام"، الذين لم يقنع بعضهم بمجرد السير خلفهما في تجوالهما الهائم في شوارع القاهرة، بل قرر بعضهم أن "ينزع ثيابه ويتحنجل في مشيته، وكثر خلفهم أوباش النساء والصغار، وصاروا يخطفون أشياء من الأسواق ويصير لهم في مرورهم ضجة عظيمة".

نكمل الحكاية غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.