رحلة أمير ويلز إلى الشرق

14 نوفمبر 2014
أمير ويلز مع مرافقيه (فرنسيس بدفورت)
+ الخط -
انطلق أمير ويلز، الابن الأكبر لملكة بريطانيا فيكتوريا والأمير ألبرت في مارس/آذار عام 1862، في جولة إلى منطقتنا العربية، وذلك بعد تخرّجه من الجامعة بأربعة أشهر. إذ أرادت والدته أن يتسنّى له اكتناه معالم الشرق وهو في العشرين من العمر، أي قبل اعتلائه عرش المملكة. لم تؤجّل الملكة فيكتوريا سفر ابنها على الرّغم من موت والده المفاجئ قبل شهرين من موعد الانطلاق.
رافق الأمير ألبرت إدوارد، ثمانية أشخاص من ضمنهم المصوّر فرنسيس بدفورت. كان الهدف الرئيسي لبدفورت، التقاط صورٍ لأماكن تاريخية ومقدّسة. ظهر الأمير ومرافقوه في ثلاث منها فقط. أمّا بقيّة الصور، عكست شغف شعب بريطانيا المتزايد في مشاهدة المناطق التي ذكرها الإنجيل (الكتاب المقدّس) في فلسطين والآثار المصريّة واليونانيّة والمساجد.

بدأ بدفورت يسجّل التاريخ في صور، من مصر أرض الفراعنة، حيث أمضى بضعة أيّام في القاهرة وزار مسجد محمّد علي مؤسّس الأسرة الحاكمة في ذلك الوقت. امتطى بعدها الأمير ومرافقوه الجمال وتوجّهوا نحو الأهرام، شاهدوا أبو الهول قبل غروب الشّمس ونصبوا الخيام أسفل الأهرام حيث أمضوا الليل، كي يتسلّقوا الهرم الأكبر قبل شروق الشمس في اليوم التالي.
وفّر محمّد سعيد باشا والي مصر ثلاث سفن لأمير ويلز، الذي أبحر في نهر النيل نحو أسوان من دون توقّف. بيْد أنّه في طريق العودة ترجّل مع مرافقيه إلى جزيرة فيلا وزار معبدها، الذي أبهره وقال عنه أنّه الأكثر تشويقاً وجمالاً.
لم تفلت معظم الأماكن الأثرية من كاميرا بدفورت الذي أبدع في التقاط أجمل مناظر الشّرق ومعابده، ومنها معبد إيزيس ومحيطه الذي بُني في أواخر عهد المملكة البطلمية، بعد فتح الإسكندر الأكبر لمصر في عام 332 قبل الميلاد. إذ أصبح المعبد جزءاً من الإمبراطورية الرومانية في عام 30 قبل الميلاد. وكذلك معبد طراجان الذي يعتبر من أكبر الآثار القديمة الماثلة في مصر اليوم.

أمّا الصورة الأكثر دقّة، فكانت للبوّابة الرئيسية لمعبد حورس في مدينة إدفو ثاني أكبر معابد مصر القديمة بعد معبد الكرنك، الذي استغرق بناؤه 180 عاماً في عهد البطالمة. وكتب أمير ويلز في صحيفته عن حماس بدفورت المماثل لحماسه لدى مشاهدتهم لمعبد حورس، وعن التقاط بدفورت مناظر في غاية الرّوعة لشتّى أرجاء المعبد.

كما التقطت عدسة بدفورت الناجييْن الوحيديْن في معبد أمنون، اللذين صمدا منذ العام 1350 قبل الميلاد قرب نهر النيل. وهما عبارة عن تمثالين ضخمين يرمزان إلى الرّومانسية والسّوداوية. وقد شكّل هذان التمثالان مصدر إلهام للكتّاب والفنّانين والموسقيين عبر الزمن.
وجالت كاميرا بدفورت على غالبية معابد مصر وآثارها، لتسجّل الوجود المسيحي القبطي الأوّل في تلك المنطقة، حيث كان يصلّي أولئك في كنيسة شُيّدت في أرجاء معبد رمسيس الثالث الفسيح. تُظهر صور بدفورت بعض أعمدة الكنيسة التي كانت لا تزال صامدة إلى تلك اللحظة، بيد أنّها اختفت من دون أن يبقى لها أيّ أثر في الوقت الحالي.

والتقى أمير ويلز في مصر بالمصوّر الفرنسي الشهير غوستاف لو غراي، الذي سكن في المنطقة آنذاك، وانتهز فرصة التقاط صورة للأمير ومرافقيه، كما جال معهم في نهر النيل. ولدى عودة الفريق الملكي إلى القاهرة، أمضى الأمير بعض الوقت بعيداً عن بدفورت لإكمال برنامجه، بينما زار المصوّر عدداً من أماكن الفنّ المعماري الإسلامي، وأهمّها مجمّع مسجد ومدرسة الأمير صرغتمش، الذي شُيّد في العام 1356. وقد عكس بذلك فنّ هندسة المماليك المعمارية، من خلال تصويره مسجد سلطان حسن، حيث تظهر نافورة مياه كان المصلّون يستخدموها للتوضؤ قبل الصلاة.

ولأنّ بدفورت خطّط لنشر وبيع صور الشّرق الأوسط في العاصمة البريطانية لندن، فأبدع في عمله. وبعد عودته إلى بريطانيا، أصبح بدفورت من أشهر مصوّري عصره.
في حين جمع أمير ويلز بعض التحف وحملها معه إلى بريطانيا، وذلك تطبيقاً لتعليمات والدته التي لطالما شجّعته على ذلك كجزء من تربيتها لأبنائها، ولا تزال تلك الآثار ضمن المجموعة الملكيّة لغاية اليوم.
مثّل الإنجيل في العهد الفيكتوري، المصدر الرّئيسي للمعلومات عن الأرض المقدّسة لعامّة الشّعب. لذلك زار الوفد الملكي القدس وبيت لحم والجليل، وهي مناطق تربطها علاقة وثيقة بالكتاب المقدّس، كما سُمح للأمير بزيارة الأماكن الإسلامية المقدّسة مثل قبّة الصخرة في القدس والمسجد الابراهيمي الخليل. هناك حصل بدفورت على إذن خاص لالتقاط صور تلك المناطق، مثل جبل الزيتون في شرق القدس القديمة. بينما ينظر إليه المسيحيون بمنظور ديني، حيث أنّه المكان الذي علّم فيه المسيح تلاميذه ومن هناك ارتفع إلى السّماء. كما صوّر كنيسة القيامة، ليقينه أنّ تلك الصور ستحظى باهتمام شديد لدى عودته إلى بريطانيا.

كما جال الوفد الملكي في سورية ولبنان، حيث وقعت معركة ضارية في العام 1860 بين المسيحيين الموارنة والدروز. وشاهد الأمير في لبنان قلعة بعلبك التي بناها الرومان، ثمّ أكمل رحلته إلى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث نصبوا الخيَم بالقرب من القنصلية البريطانية، واستقبلهم الناس هناك استقبالاً ضخماً ومميّزاً. ومن بيروت توجّه الوفد إلى طرابلس وأخيراً إلى جزر رودس في المتوسط، وإلى قلب الإمبراطورية العثمانية في 20 مايو/ أيّار، حيث رحّب بهم السّلطان عبد العزيز. وأبحر الوفد بعدها إلى أثينا ومنها عاد إلى موطنه.
أمضى أمير ويلز أربعة أشهر في الشرق الأوسط، عاد بعدها إلى بريطانيا في 14 يونيو/حزيران، وتُوّج ملكاً في 22 يناير / كانون الثاني عام 1901، عقب وفاة والدته الملكة فيكتوريا، ليصبح بذلك الملك إدوارد السابع.
استطاع معرض "مصر إلى القسطنطينية"، أن يعيد ذاكرتنا إلى ذلك الزمن التاريخي العملاق والغنيّ معنوياً وفنيّاً من خلال الصور التي جسّدت تلك المرحلة الزمنية.
المساهمون