تراهم في شارع أندرياش في مقاهيه ومطاعمه مساء. الإنصات إلى أحاديث هذه الفئة يكشف الفارق الكبير بين لجوء ولجوء. "بطريقة ما" يصل بعضهم، وكأنه مستثمر أو مقيم بين سورية وبلدان أخرى، بما فيها المجر، بل إن بعض من يتحدث منهم يقول إنه كان للتو في سورية.
اقرأ أيضاً: اللاجئون في المجر... ضحايا حسابات اليمين المتطرّف
التدقيق في ملابس هؤلاء من جهة، ومحيا الآلاف من السوريين الذين يفترشون الشوارع بلا حاجياتهم الأساسية حتى، يكشف حجم الفروقات التي طغت على المتغيرات الاجتماعية السورية.
تجلس صبية ترتدي حذاء لاكوست مع مجموعة من الشبان الذين يبدو عليهم أنهم لم يعرفوا سوى "الملاعق الذهبية"، تقول فجأة "لقد شاهدت مناظرهم (اللاجئون) المؤلمة على التلفاز... لماذا يخرجون من سورية هكذا...". وقبل أن تكمل ما كانت تقول يقاطعها رجل في منتصف العقد الثالث، وهو يداعب ملعقة صغيرة كان يحرك بها فنجان قهوته، "لقد سمح لهم بالخروج عبر القطارات لأنه من الناحية الإنسانية لم يعد من مجال أمام وسائل الإعلام...".
وبينما كان النقاش يدور حول "الرئيس"، والمقصود رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان،
بدا على أحد الجالسين تأثر سرعان ما يكشف عن مصدره بعد سيل من الشتائم والتقريع بحق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
تتعدد محاور النقاش وصولاً إلى طرح فرضية وجود "مؤامرة" لاستغلال "اليد العاملة والمهارات السورية"، بالرغم من أن الجدل كان مستمراً بين هذه الأطراف عن أن "هؤلاء (اللاجئين) مجرد متخلفين وخربوا البلد وخرجوا".
لا يعني هذه المجموعة ما خسره اللاجئون حتى السقف الذي يؤويهم في سورية، وأن موجة الخروج من التهجير الداخلي إلى أوروبا عبر تركيا قد تصاعدت بعد أن أصبح الوضع حتى في الدول المجاورة غير قادر على استيعاب كل اللاجئين، ما دفع الكثير منهم للمخاطرة بحياته على أمل الوصول إلى بلد أفضل.
بين تلك الجموع اللاجئة التي كانت تضيق بهم ساحة محطة قطارات بودابست كان يمكن مشاهدة رجل متأفف يسير مع زوجته بعيداً على الرغم من أنه ينتظر مثل الآخرين دوره في العبور نحو النمسا ومنها إلى وجهته، كما صرّح بنفسه إلى "العربي الجديد"، إلى مالمو تحديداً (جنوب السويد).
يروي علي الحسين لـ"العربي الجديد" بعضاً من قصته بقوله "لم تكن هناك منطقة في سورية لم أخدم فيها حتى وقت قريب...". وعن طبيعة تلك الخدمة، يضيف بلا تردد "كنت ضابط استخبارات...". يخبر الحسين عن رحلته التي لا تختلف كثيراً عن رحلة اللجوء التي باتت معروفة المسار، لكنه يتحدث عن الواقع الذي عايشه في سورية بشيء مختلف عن أحاديث البقية، قائلاً "أنا من الرقة، كنت أخدم في كثير من المناطق، بما فيها ريف دمشق وحي التضامن الملاصق لمخيم اليرموك". ويضيف "قبل سيطرة داعش على الرقة لم أعد أحتمل الظلم الذي كنت أشاهده... لكنني بقيت في الخدمة على الرغم من كل شيء أملاً في مساعدة بعض الناس". يتابع الحسين سرد تفاصيل ما واجهه والتحول الذي طرأ على حياته بقوله "حين عذب أخي حتى الموت ولم أستطع فعل شيء له، وأنا ابن الدولة أصبت بصدمة، أرسلت عائلتي إلى الشمال، ونُقلت إلى البادية السورية وبقيت قليلاً في ريف حمص، حتى غادرت إلى الرقة. لم أستقل بل غادرت هكذا، وزملائي يعرفون مأساة فقدان أخي، وحاولوا الاتصال بي للاستفادة مني ورفضت. لكني صرت مطلوباً لاحقاً للنظام الذي عملت فيه لفترة طويلة ولتنظيم داعش، وخصوصا أني من عائلة معروفة".
ويضيف الحسين "صرت بين نارين وما كان أمامي سوى الهروب ثانية في داخل سورية، إلى أن بدأ الدمار يلحق بكل شيء، وكنت أشاهد بأم العين ما تفعله جماعات الشبيحة والاعتداءات على البشر الذين يدخلون عليهم بحجة حمايتهم من الإرهابيين، فيقعون هم ضحية لهم وحين يخرج شبيحة الدفاع الوطني من المنطقة يأتي داعش ليذيقهم الأمرّين".
أما عن تفاصيل لجوئه خارج سورية، فيقول الحسين "أخذت أطفالي الأربعة بعد أن شعرت بأنه نظام منهار بالتأكيد، ومتحول إلى عصابات حتى ليست محلية، تشبه كثيراً الطرف الآخر في داعش، متجهاً مع الجموع إلى تركيا ومنها بحرًا إلى اليونان".
الصدمة من واقع اللجوء، الذي لا يشبه لجوء "الطبقة الأرستقراطية" كما يطلق عليها السوريون في بودابست، تدفع الحسين إلى القول "أقسم بأني لو عرفت أن هذا هو الواقع لاخترت أن أضع نفسي وأولادي هدفاً تدريبياً (نيشان كما يلفظها) لصواريخ وبراميل بشار (الأسد)..." . أعاد الحسين التأكيد على كلامه، قبل أن يضيف "لكنني بالتأكيد لن أقول هذا الكلام أمام (الأجانب)" وهو يقصد بلد اللجوء في السويد. أما لماذا السويد فيوضح الحسين أنه لديه زملاء خرجوا من الخدمة في صفوف النظام، وسافروا، وهم في السويد حالياً، وقد حصلوا على لجوء....
اقرأ أيضاً: اللاجئون في المجر... ضحايا حسابات اليمين المتطرّف