ربيع الهضبة الإثيوبية

16 أكتوبر 2016

قوات الشرطة تواجه المتظاهرين جنوب أديس أبابا (2/10/2016/فرانس برس)

+ الخط -
انتفض إقليم الأروميا الإثيوبي، متوجاً نضاله منذ أربعين عاماً من أجل نيل حق تقرير المصير لأكبر قوميات جمهورية إثيوبيا، شعب أورومو الكبير، والذي يمثّل 40 مليون نسمة من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 80 مليوناً. نكأت الحكومة الإثيوبية جراح الأورومو، باستهدافها مصادرة أراضيهم، ما أثار غضب سكان المنطقة.
أعلنت الحكومة الإثيوبية حالة الطوارئ في البلاد ستة أشهر، بعد سيلٍ من الاحتجاجات ضد الحكومة من أعضاء اثنتين من أكبر الجماعة العرقية في البلاد، الأورومو والأمهرا، وذلك قبل أن يعترف رئيس الوزراء الإثيوبي، هايلي مريم ديساليغن، بأنّ عدد القتلى في منطقة أوروميا يمكن أن يكون أكثر من 500 شخص.
يشكّل الأورومو والأمهرا معاً ما يصل إلى نسبة 60% من سكان إثيوبيا. ويشكو أعضاء هاتين المجموعتين العرقيتين من الأدواء الملازمة لقارة أفريقيا، التهميش السياسي والاقتصادي بتركز السلطة في أيدي نخبةٍ قليلةٍ من التيغرانيين. كما أنّ هناك أسبابا أخرى، هي عدم رضا المسلمين الأورومو عن فرض زعماء اختارتهم الحكومة عليهم، وإجلاء الحكومة مزارعين من أراضيهم، من أجل إقامة مشاريع استثمارية زراعية، ثم احتجاج مجموعاتٍ سكانيةٍ من الأمهرا على ضمهم إلى منطقة التيغراي، بدلاً من منطقة الأمهرا، وانقطاع التواصل بين المجموعات التي تعيش في أرجاء إقليم أوروميا الواسع.
تأجّجت هذه الاحتجاجات، نتيجة حِراكٍ ثوري خلال السنوات الخمس الماضية، من تحت رماد صورة الاستقرار الاقتصادي التي ما فتئ الإعلام الرسمي الإثيوبي يعكسها لدول الإقليم، وساهمت في تمدد الدولة على حساب جيرانها.
منذ السبعينيات، كان الشوق إلى الديمقراطية في إثيوبيا ملتبساً في حالة اليسار الأفريقي الجديد، تأرجح بين رومانسية الريادة في شقّ طريقٍ جديد للحركة الثورية التي كان أبطالها مثقفين ومفكرين وسلطويةٍ قياديةٍ، تتماهى كوادرها تحت الزي العسكري للظفر بالسلطة. ووسط تلك الرياح الثورية، تشكّل عهد منغستو هايلي ماريام (1974- 1991) الذي لم يكتفِ باستيراد الفكرة، وإنّما حوّل إثيوبيا إلى أرضٍ تنزع نحو الاتحاد السوفيتي تارة، وتجتاحها تارة أخرى رياح الماركسية اللينينية، على غرار التجربة الكوبية. وقد اختلط حابل المبادئ الاشتراكية التي تشرّبها بنابل ديكتاتوريته وسطوته ومبالغاته في الولاء المنذور لأيّ من الخطين، حسبما يقتضيه الحفاظ على سلطته. ولم تكن إطاحة نظام منغستو هايلي مريام الديكتاتوري في 1991 احتمالاً قريباً من التحقيق، إلى أن تحوّلت إثيوبيا إلى أرضٍ يخيّم عليها شبح المجاعة والحروب الأهلية.
ليست إثيوبيا اليوم كسابق عهدها، فبهذه الثورة والاحتجاجات، هي تثور على نظامٍ قديم ترسّخ على أرض الهضبة، على الرغم من الشكل الديمقراطي للحكم. فبعد إنهاء حقبة آخر أباطرة الهضبة الإثيوبية (هيلاسيلاسي 1930- 1974) بانقلابٍ عسكريٍّ، قاده منغستو هايلي مريام، بثنائية العسكر والمبادئ الاشتراكية، ظلت إشكالية استدعاء العسكرتاريا وإدخالها في نظام حكم يؤمن صاحبه بالمبادئ الاشتراكية قائمة.
لم يغيّر الانقلاب من طغيان الدولة التسلطية على المجتمع الإثيوبي، فقد كانت الدولة، في عهد
منغستو هايلي ميريام، الشكل الجديد للدولة السابقة المستبدة والإقطاعية، والتي تسرّبت عن طريق اختراق المجتمع برؤى جديدة تمثل حلم الشعب، لكنه تبدّد بعنف الرعب الأحمر. يعيد التاريخ نفسه بأنّ حالة عزل المؤسسة العسكرية، بعد استيلاء منغستو على السلطة، عن الحياة السياسية، يأتي من إرث حكم هيلاسيلاسي، وحجره على الأحزاب والنقابات وإبعاد الجيش عن الانغماس في الحياة السياسية. وهذا أحدث نوعاً من الكبت، نمّى حنق العسكر، فخرج بخوذته وبزته على الواقع السياسي الإثيوبي.
وقد ساهمت في إخضاع المجتمع الإثيوبي لحكم منغستو الديكتاتوري التربة الخصبة المكوّنة له كمجتمع مرحلي، انتقالي، تراثي يتجاذبه الإرث الإمبراطوري والنظام الاشتراكي، وهو يعيش حالة مواجهةٍ وصراعاً بين قوى متعددة ومتناقضة. وفي نهاية الإمبراطورية، لم يكن قد استقر بعد على هوية، وعقيدة سياسية محددة.
تحوّل منغستو من الإيمان بالأيديولوجيا إلى عبادة السلطة، وهي الثقافة نفسها التي تتحول بها الشعوب من الإيمان بالأفكار إلى تكريس الإيمان بالفرد، فاختصرت المبادئ والخطاب السياسي والثقافي في شخص الديكتاتور. ومن أجل ذلك، كرّس نظام منغستو المبادئ الاشتراكية وقناعات الثورة لاستخدام العنف، فتلبس نظامه لبوساً اشتراكياً مزّوراً، وضمر خطاباً عسكرياً كي يساعده على بسط سلطته.
يستيقظ صوت منغستو، مرة أخرى، بتوجيه الاتهام لمصر، وهو استعادة لما اعتبره منغستو مؤامرة مصرية ضد إثيوبيا بما سُميّ في عهده تحالف سفاري المضاد للمد الشيوعي، وكان يشمل الولايات المتحدة ومصر السادات والمغرب والسعودية وكينيا وإيران الشاه. أما الآن، فقد اتهم الرئيس الإثيوبي، ملاتو وتشومي، مصر بدعم جبهة تحرير أورومو المعارضة المسلحة لبلاده، خلال الشهرين الماضيين، تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية.
أصبحت إثيوبيا من أسرع الاقتصادات الصاعدة في أفريقيا، لكنها اختارت الديمقراطية مطيةً لبسط سطوتها بتجفيف منابع المعارضة، وكبح حرية التعبير. فشلت إثيوبيا في التحول من جبهة ثوريةٍ سريةٍ إلى ديمقراطية حقيقية، فليست الديكتاتوريات التي اندلعت بسببها ثورات الربيع العربي وحدها ما تحتاج إلى التغيير. ولكن، حتى بعض النظم الديمقراطية عندما تنحرف عن مسارها تحتاج إلى هزّاتٍ عنيفةٍ، لينفجر جرّاءها ينبوع الحرية، كما يحدث في الهضبة.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.