ربع قرن بعد "نهاية التاريخ"

14 يونيو 2015

مقاتلات حربية في أثناء الاستعدادات لتحرير الكويت (18 نوفمبر/1990/Getty)

+ الخط -
يرحل طارق عزيز بعد ربع قرن من تزامن انثناء تاريخ العالم المعاصر، متمثلاً في نهاية الحرب الباردة، مع انثناء تاريخ العرب المعاصر، متمثلاً في اجتياح جيش صدام حسين الكويت. بسبب من هذا التزامن، بدا العرب طرفاً أساسياً في أحداث العالم خلال ربع القرن الأخير، ليس من موقع الصانع لها على الأغلب، بل المتلقي والمتأثر والمتضرر، بخاصة أن ربع القرن هذا هو الذي سيطرت فيه الولايات المتحدة على العالم كله، ثقافياً قبل أن تسيطر اقتصادياً أو عسكرياً، وبشكل غير مباشر قبل أن تسيطر مباشرة، في انسجام طبيعي مع نظرية "نهاية التاريخ" الأميركية الشهيرة. 
وسواءً كان شخوص نظام صدام حسين، الذين يمثل طارق عزيز أحد آخر الراحلين منهم، على صلة حقيقة بالأحداث التي دارت منذ ذلك التاريخ أم لا، فإنهم قد رحلوا تباعاً من دون أن تتعطّل نتائج الحدث الذي شاركوا فيه، في الثاني من أغسطس/آب 1990، إذ ما يزال ذلك اليوم أكثر أيام العرب مفصليّة في العقود الأخيرة، وما تزال نتائجه ماثلة، وتتوالى إلى اليوم. وربما سيتبيّن بعد سنوات كم أن مساعي شحن التفكير العربي ضد الاستبداد السياسي، الذي ترافق وخطوات إطاحة نظام صدام، قد أثّر في بلوغنا "الربيع العربي"، وثوراته ضد الاستبداد.
تُرى، كيف كان سيتغير تاريخ العرب المعاصر لو لم تقع حادثة الثاني من أغسطس/آب تلك، والتي قادت إلى تعطيل كثير من خطط التنمية في العراق ومحيطه العربي، والتركيز بدلاً منها على انقسام العرب إلى فريقين؛ بحسب الموقف من صدّام نفسه؟ ربما يكون مثل هذا السؤال ملحاً وضرورياً إذا ما كانت ثورات الربيع العربي تمثل نقطة تحوّل جوهرية في التاريخ العربي، وهو أمر سيتضح خلال وقت قصير.

والسبب، أن الإجابة ستكون مفيدة في التخطيط للمستقبل، وتحديد أهدافنا منه؛ فهل ستظل شعاراتنا الكبرى تتعلق بمقارعة الأجنبي والتصدي للإمبريالية، ولو على حساب التنمية والتحديث، كما ظل يجري منذ 2 أغسطس/آب، أم سنلتفت اليوم، بالاستفادة من نتائج "الربيع العربي"، إلى أولويات التنمية والمدنيّة وبناء دولة القانون، باعتبارها الطريق الناجعة للتقدم الحضاري، وتجاوز التأثيرات الأجنبية وأطماعها؟
خلال ربع القرن هذا، ظل نظام الأولويات مقلوباً لدى الشعوب العربية، فالذين أيدوا صدام حسين وجعلوه رمزاً، إنما انطلقوا من اعتبار ما يجري داخل النظم العربية مسائل داخلية، وأن الأولوية دائماً للتصدي للقوى الأجنبية أو الصمود في وجهها، أياً كانت نوعية النظام الذي يعلن هذا الصمود. وهذا، للمفارقة، هو "المنطق" نفسه الذي يتحدث به مؤيدو نظام بشار الأسد اليوم في تبريرهم مساندته، على الرغم من حجم الدم الذي أراقه؛ فهم يلقون كل الضوء على "صموده وممانعته"، أياً كان ما يفعله تجاه شعبه.
لكن مؤيدي الثورة السورية، في المقابل، على امتداد العالم العربي، لا ينادون طبعاً بتشريع أبواب سورية لإسرائيل والإمبريالية! بل يجعلون التخلص من الاستبداد أولويةً تقود إلى ثنائية التنمية والمقاومة؛ ما يعني أن "الربيع العربي" نجح نسبياً حتى الآن في إصلاح نظام الأولويات ذاك، لصالح التركيز على التضامن بين الشعوب العربية، أياً كان محتوى الخطاب الذي تقدمه الأنظمة. ثمة تغيير، إذن، لكنه ما يزال غير مكتمل، بسبب تعقيد المشهد الثوري في مختلف دول "الربيع العربي".
وهكذا يكون علينا الانتظار قليلاً قبل إصدار الأحكام. حتى الساعة، ما يزال الثاني من أغسطس/آب 1990 يرفد الذاكرة العربية والتفكير العربي بصور وقيم كثيرة، بما في ذلك صورة إعدام صدام، وقيمة "الرجولة" التي رآها الناس فيها، والتي تعني، في الفهم الشعبي، أن يكون القائد عنيداً لكي يكون أسطورياً، وأن يقدم على الموت بشجاعة، بدل أن يكون محنكاً وليّناً، حتى لو كان اللين وحُسن التصرّف يخدمان مصالح شعبه وأمته، ويدفعانها قدماً على طريق التحضّر، أكثر مما يفعل "الموت الشجاع".
يرحل طارق عزيز، إذن، وهو أحد آخر الباقين من رجالات نظام صدام، من دون أن تتعطل فاعلية ما تركه ذلك النظام في التاريخ العربي المعاصر. تُرى، هل نستطيع الجزم بأن تاريخ العرب كان سيبدو أفضل لو لم يقع الثاني من أغسطس، متزامناً مع "نهاية التاريخ"، وتفرّد أميركا، التي جاهر صدام بعدائها، بالعالم؟
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.