رئيس بلا شعب

28 ديسمبر 2015
+ الخط -
لم يُصب العالم بالذهول، حين أصدر ذلك الرئيس المنكوب قراراتٍ تاريخية بإلغاء حالة الطوارئ في البلاد، والسماح بإنشاء الأحزاب، ورفع منسوب حرية التعبير إلى ما وراء سقف السماء، لأنهم يعرفون مبلغ الأزمة التي يمر بها، بعد فقدانه الشعب كله، في الزلزال الذي ضرب بلده، ولم يبق منهم غير مواطن واحد نجا من الموت بأعجوبة.
حدث الزلزال بغتة. ومن حسن طالع الرئيس، المحظوظ دوماً، أن تزامن الزلزال مع إجازته السنوية البالغة اثني عشر شهراً، والتي كان يتمتع بها خارج البلاد كعادته، لأن بلده، كما كان يردد دوماً، "غير صالح للحياة البشرية"، وأغلب الظن أن نظام حكمه كان قائماً على هذه القناعة.
في البداية، لم تحرّك المكالمات الهاتفية العاجلة التي وردته تباعاً من زعيم الدولة التي تستضيفه أي ساكن في عروقه، والتي يبلغه فيها عن الزلزال الذي ضرب بلده، ولم يكترث كثيراً، حين قيل له إن المؤشرات الأولية تفيد بأن نصف شعبه قد "نفق"، بل كان لسان حاله يقول: "لا بأس، في وسعنا أن نحكم النصف الآخر"، ولم يعنه الأمر كثيراً، حين تم تقليص حجم الحراسة والخدم عليه من البلد المضيف إلى النصف.
ردة الفعل نفسها، أبداها الرئيس، حين ارتفع رقم "النافقين" إلى ثلاثة أرباع الشعب، وواصل مطّ جسده على شاطئ البحر من دون اكتراث، على الرغم من تقليص الحراسة والرفاهية إلى ربع ما كانت عليه.
غير أن الصدمة الحقيقية ضربته كالزلزال، حين لم يعد يرى سوى حارس وخادم وحيدين يحيطان به، ثم ما لبث أن بوغت بممثل رسمي عن البلد المضيف، يتجه إليه مسرعاً ليبلغه أن شعبه كله قد "فطس"، ولم يبق سوى ناج وحيد يصارع الموت.
عندها سأل الرئيس مستفسراً: إذا مات هذا الناجي الوحيد، فهل يعني ذلك رفع الحراسة والخدم عني؟
أجابه الممثل الشخصي: يؤسفني أن أجيب بنعم يا سيدي، بل وأكثر من ذلك، سيتعيّن عليك أن تغادر بلدنا فوراً.
ـ "لماذا؟".. سأل الرئيس حانقاً.
ـ لأنك عندها لن تعود رئيساً.. هل سمعت قبل الآن برئيس بلا شعب؟
عند هذه العبارة "رئيس بلا شعب"، ارتجّ جسد الرئيس، وغامت شمس الشاطئ في عينيه، وشعر بتهديد غامضٍ يوشك على اقتلاع نفوذه الذي بناه بعرق سوطه وعصيّه، فما كان منه غير أن نهض برشاقةٍ لم يعهدها في جسده من قبل، إلا في "الفراش"، وطلب من فوره، تجهيز طائرته الخاصة للعودة إلى بلده.
ما إن حطّت الطائرة على أرض المطار، حتى قفز منها الرئيس كالغزال، واتجه مباشرة، إلى الزقاق الذي قيل له إن "الناجي الوحيد" يقيم فيه، فوجده هناك ملقىً بين الركام، يصارع الموت بأنفاسٍ متقطعة.
انهال الرئيس بيديه فوق صدر الناجي الأخير، وراح يدلّكه بعنف، وهو يلهث، كمن يرى فيه ومضة السلطة الأخيرة التي بقيت له، وراح ينفخ الهواء الذي جمعه من كل شواطئ العالم، في فمه، وهو يصرخ به: "أرجوك لا تمت، أنت جدار الزعامة الأخير الذي أستند إليه، ماذا تريد، اطلب وتدلّل. من أجلك سألغي أحكام الطوارئ، بل سأسمح بإنشاء الأحزاب بكل أطيافها السياسية، وسأجعل للبرلمان السلطة الأولى في البلد.. وسأسمح أيضاً بحرية التجمعات والتظاهر، من دون سقف للهتافات، لك أن تهتف بما تشاء بعد الآن، اهتف (فليسقط الرئيس)، ولن تعدم ولن تسجن، سأهدم كل السجون، عش وسترى ما لم تكن تحلم به، سنتبادل الأمكنة، سأعطيك قصري إذا شئت، وسأنام أنا على الأرصفة، فقط أبقِ عليّ رئيساً".
الغريب أنه مع كل وعد يبوح به الرئيس، كانت أنفاس (الناجي الوحيد) تتضاءل، والأغرب أن أنفاس الزعيم نفسها بدأت تتضاءل، وهو يرى المواطن الأخير ينسحب من الحياة رويداً رويداً.
حين خرّ الرئيس صريعاً، كان آخر ما شاهده تلك الابتسامة الماكرة على شفتي المواطن الميت.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.