13 نوفمبر 2024
رئاسيات الجزائر والخروج من التاريخ
قد يبدو عنوان المقالة نوعا من الهوس، أو ضربا من الجنون، إذ يتمّ الرّبط فيه بين موعد سياسي مفصلي هو الرئاسيـات وفعل الخروج من التّاريخ الموسوم، منطقيا، بالانهيار. ولكن، في حالة الجزائر، قد يكون الأمر أكثر من بيّن وواضح، وضوح الشمس في قارعة النهار، لأن ما شهدته البلاد منذ إعلان موعد الانتخابات الرئاسية (إبريل/ نيسان المقبل) يفوق كل ما يمكن أن يُعدّ سويّا، أو ما من شأنه تمكين الجزائر من الدخول إلى التّاريخ، من بابه الواسع.
في غضون أيام، ناهز عدد المترشّحين للرئاسيات الـ 120 مترشّحا، منهم من يُوحَى إليه (حقيقة لا مجازا)، ومنهم من تقدّم للموعد طمعا في أكل شرائح من اللّحم، كما ظن بعضهم أن الفرصة جاهزة للاقتناص تماما كما اقتنصها غيره، وهذه من عجائب تندّر عليها الرّأي العامّ الجزائري، وهو يعلم، تمام العلم، أنّ غريبي الأطوار، بعددهم المهول، لم يهذوا بالسياسة إلا لاعتقادهم أن إشارة انطلاق المسار نحو "قصر المرادية" (مقرّ الرّئاسة في الجزائر) لم تُعط بعد، لأنّ مرشّح السّلطة لم يتقدّم للترشّح إلى غاية كتابة هذه الأسطر.
وعلى الرّغم من عدم تقدّم المرشّح المنتظر للإعلان عن نيّته للترشّح، إلاّ أنّ أحزاب التحالف الرئاسي (تسمّى في الجزائر أحزاب الموالاة) اجتمعت لتعلن أن مرشّحها الوحيد هو الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة الذي أعياه المرض منذ نهاية عهدته الثالثة، أي أن العهدة الرابعة نفسها كانت، أيضا، من بدائع أمور السياسة في الجزائر.
الحديث، هنا، عن الخروج من التّاريخ، لأنّ النّظام السيّاسي في الجزائر رئاسي، حيث ترتكز كلّ سلطات الحكم في يد من يختاره الشّعب (نظريا) ليكون رئيسا للبلاد، وإذا استمرّت الأمور على ما هي عليه، الآن، فإنّ الجزائر تسير مباشرة نحو ذلك الطريق، لا محالة.
الحديث هنا عن الخروج من التّاريخ، لأنّ الوضع ودار لقمان ما زالا على حالهما، وعلى
المستويات كافة، إذ أنّ الحكم ومؤشّرات الاستمرار فيه، وفق ما تنصّ عليه القوانين بشأن عدد العهدات والتداول على السّلطة، لهما علاقة وطيدة بالنجاحات السياسية، الاقتصادية، الأمنية والاجتماعية. وبالتدقيق في حصيلة المنظومة الحاكمة، الآن، ومنذ عشرين سنة، نصل إلى نتائج تؤدّي بنا، في حالة الإصرار على التّرشيح المذكور، للخروج من التّاريخ والانهيار الأكيد أو، كما نقول في الجزائر بلغة شعبية، التقدّم نحو الخلف.
نتحّدث عن الخروج من التّاريخ، لأنّ السياسة لا تُمارس بالوكالة، كما كانت عليه الحالة طوال فترة العهدة الرابعة من تاريخ ترشيح الرّئيس إلى الحملة الانتخابية وصولا إلى خمس سنوات كاملة لم نر فيها إلا تناقضاتٍ حطّت من قيمة البلاد، ومن رفعة منصب الرئاسة ومحوريته بالنسبة للحكم في الجزائر. والسّؤال الذي يطرحه الجزائريون: ما الذي يريده النظام من الإصرار على الخروج من التاريخ، بقرارات غير منطقية، وبمسار يثير شكوكا كثيرة حول خلفيّاته وانعكاساته على مستقبل البلاد برمّته؟
عندما نُخضع ما ذكرناه للقراءة السياسية المتأنية، نصل، حتما، إلى أن الصّندوق الأسود الذي يقرّر شؤون الحكم في البلاد، أو ما أطلق عليهم السيّاسي عبد الكريم طابو "النّاخبين الكبار"، يحاول تسيير البلاد بمنطقٍ لا يمكن أن نرى من نتائجه إلا ما قال السياسي نفسه إن مرادفه هو "الخروج من التّاريخ".
نصل إلى نقطة أخرى مهمّة، وهي المتّصلة بمواقف المعارضة والموالاة من منطق الخروج من التّاريخ، ولماذا يستمر بعضهم في اعتباره شيئا لا يعنيهم، أو يعترفون بأن التزوير والعزوف هما مصير هذه الانتخابات، ثم يصرّون على المشاركة فيها، أو مقاطعتها، من دون اتّخاذ موقف "ثوري"، باعتبار أن مستقبل الجزائر على المحك، وأنّ العمل الذي يجب أن يقوم به الجميع هو الوقوف موقف الرّفض للمنطق والاستمرار، بالأدوات السّلمية التي يمنحها ويخوّلها القانون، للاعتراض على المسار المؤدّي إلى الخروج إلى التّاريخ.
كتب صاحب هذه السطور، في مقالات في "العربي الجديد"، عن الرئاسيات في الجزائر، وإذ يصرّ على اعتبار أنّ المنطق الذي تُسيّر به يذهب بنا مباشرة إلى الخروج من التّاريخ، فانّ اقتراح "الموقف الثوري" من هذا الموعد، في حالة الإصرار على تنظيمه بالديكور نفسه، وبالفاعلين أنفسهم، بل بالنتائج المعلنة نفسها، سلفا ومن الآن، هو المخرج الوحيد لهذا الانسداد السياسي غير المشهود، من قبل.
يشبه "الموقف الثّوري" الموقف المفصلي من موعد انتخابي ستترتّب على إجرائه، بهذا
المنطق، انعكاساتٌ وخيمة على مستقبل الجزائر، وهو الموقف الوحيد الذي سيجمع شتات المجتمع المدني، والشخصيات الوطنية، الرافض منطق "الخروج من التاريخ"، والأمل في موقف جامع يحفظ للبلاد ما تبقى لها من إمكانات وقدرات لبناء مستقبلها أو، على الأقل، التّقليل من منحنى الانحدار الذي سارت عليه في العقدين الأخيرين، والرجوع بها إلى منحنى الوقوف، ثم العروج إلى منطق التقدّم إلى الأمام.
يملك المجتمع الجزائري قدراتٍ كبيرة لتدارك الأخطاء والتعريج بالبلاد إلى مسار آخر غير الذي يُراد لها، راغمةً، السير فيه بمناسبة هذه الرئاسيات. تُعدّ دروس 1999، عندما انسحب المرشحون، بعد إدراكهم أن الانتخابات ونتائجها كانت محسومة في 2004، عندما أدرك الشعب أن الانتخابات نُظّمت بسيناريو الرّابح الأكيد (مرشح السلطة) ومن يمنحه المصداقية، تعد تلك الدروس ذات عبرٍ لما يجري الآن، تفتح الباب، واسعا، للتفكير في "الموقف الثوري" الاستراتيجي لصنع التّغيير الأكيد لمستقبل البلاد.
من ناحية أخرى، يجب التّأكيد أن مناط التغيير ليس الصندوق، ولكن ندوة وطنية توافقية تعمل وفق إجرائية المجلس التّأسيسي يعمل على إقرار دستورٍ يصاحبه إقرار إجرائية بناء المؤسسات، من خلال انتخاباتٍ تمثيليةٍ يشارك فيها الجميع، وبضمانات تجعل منها، حقا، عرسا ديمقراطيا.
يحتاج "الموقف الثّوري" إلى "حركة إبداعية" و"إجماع وطني" من المجتمع المدني، ومن الشخصيات الوطنية ذات المصداقية، يكونان في مستوى الإجماع والإبداع الذي أدّى إلى ثورة نوفمبر في العام 1954، وصنع التغيير الوحيد الناجح للبلاد، والذي انتهى بدحر الاستعمار الفرنسي.
هذه هي الحركة/ الحركية الوحيدة التي يملكها الجزائريون الآن، وينتظر الجميع بارقة أمل بمؤشر التّراجع عن منطق "الخروج من التاريخ" والانقلاب على مسارٍ يُراد به تثبيت دعائم "الاستمرارية" في ثقافةٍ سياسيةٍ نراها غير ناجعة وغير ناجحة للبلاد والعباد.
الجميع ينتظر، والأمل معقود على الجزائر الكبيرة لصنع "الموقف الثوري"، مناط التغيير في البلاد ومستقبل البلاد. وقد تكون الأشهر الثلاثة التي تفصلنا على ذلك الموعد فاصلا للتفكير وتجسيد ذلك الموقف، وإن غدا لناظره لقريب.
في غضون أيام، ناهز عدد المترشّحين للرئاسيات الـ 120 مترشّحا، منهم من يُوحَى إليه (حقيقة لا مجازا)، ومنهم من تقدّم للموعد طمعا في أكل شرائح من اللّحم، كما ظن بعضهم أن الفرصة جاهزة للاقتناص تماما كما اقتنصها غيره، وهذه من عجائب تندّر عليها الرّأي العامّ الجزائري، وهو يعلم، تمام العلم، أنّ غريبي الأطوار، بعددهم المهول، لم يهذوا بالسياسة إلا لاعتقادهم أن إشارة انطلاق المسار نحو "قصر المرادية" (مقرّ الرّئاسة في الجزائر) لم تُعط بعد، لأنّ مرشّح السّلطة لم يتقدّم للترشّح إلى غاية كتابة هذه الأسطر.
وعلى الرّغم من عدم تقدّم المرشّح المنتظر للإعلان عن نيّته للترشّح، إلاّ أنّ أحزاب التحالف الرئاسي (تسمّى في الجزائر أحزاب الموالاة) اجتمعت لتعلن أن مرشّحها الوحيد هو الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة الذي أعياه المرض منذ نهاية عهدته الثالثة، أي أن العهدة الرابعة نفسها كانت، أيضا، من بدائع أمور السياسة في الجزائر.
الحديث، هنا، عن الخروج من التّاريخ، لأنّ النّظام السيّاسي في الجزائر رئاسي، حيث ترتكز كلّ سلطات الحكم في يد من يختاره الشّعب (نظريا) ليكون رئيسا للبلاد، وإذا استمرّت الأمور على ما هي عليه، الآن، فإنّ الجزائر تسير مباشرة نحو ذلك الطريق، لا محالة.
الحديث هنا عن الخروج من التّاريخ، لأنّ الوضع ودار لقمان ما زالا على حالهما، وعلى
نتحّدث عن الخروج من التّاريخ، لأنّ السياسة لا تُمارس بالوكالة، كما كانت عليه الحالة طوال فترة العهدة الرابعة من تاريخ ترشيح الرّئيس إلى الحملة الانتخابية وصولا إلى خمس سنوات كاملة لم نر فيها إلا تناقضاتٍ حطّت من قيمة البلاد، ومن رفعة منصب الرئاسة ومحوريته بالنسبة للحكم في الجزائر. والسّؤال الذي يطرحه الجزائريون: ما الذي يريده النظام من الإصرار على الخروج من التاريخ، بقرارات غير منطقية، وبمسار يثير شكوكا كثيرة حول خلفيّاته وانعكاساته على مستقبل البلاد برمّته؟
عندما نُخضع ما ذكرناه للقراءة السياسية المتأنية، نصل، حتما، إلى أن الصّندوق الأسود الذي يقرّر شؤون الحكم في البلاد، أو ما أطلق عليهم السيّاسي عبد الكريم طابو "النّاخبين الكبار"، يحاول تسيير البلاد بمنطقٍ لا يمكن أن نرى من نتائجه إلا ما قال السياسي نفسه إن مرادفه هو "الخروج من التّاريخ".
نصل إلى نقطة أخرى مهمّة، وهي المتّصلة بمواقف المعارضة والموالاة من منطق الخروج من التّاريخ، ولماذا يستمر بعضهم في اعتباره شيئا لا يعنيهم، أو يعترفون بأن التزوير والعزوف هما مصير هذه الانتخابات، ثم يصرّون على المشاركة فيها، أو مقاطعتها، من دون اتّخاذ موقف "ثوري"، باعتبار أن مستقبل الجزائر على المحك، وأنّ العمل الذي يجب أن يقوم به الجميع هو الوقوف موقف الرّفض للمنطق والاستمرار، بالأدوات السّلمية التي يمنحها ويخوّلها القانون، للاعتراض على المسار المؤدّي إلى الخروج إلى التّاريخ.
كتب صاحب هذه السطور، في مقالات في "العربي الجديد"، عن الرئاسيات في الجزائر، وإذ يصرّ على اعتبار أنّ المنطق الذي تُسيّر به يذهب بنا مباشرة إلى الخروج من التّاريخ، فانّ اقتراح "الموقف الثوري" من هذا الموعد، في حالة الإصرار على تنظيمه بالديكور نفسه، وبالفاعلين أنفسهم، بل بالنتائج المعلنة نفسها، سلفا ومن الآن، هو المخرج الوحيد لهذا الانسداد السياسي غير المشهود، من قبل.
يشبه "الموقف الثّوري" الموقف المفصلي من موعد انتخابي ستترتّب على إجرائه، بهذا
يملك المجتمع الجزائري قدراتٍ كبيرة لتدارك الأخطاء والتعريج بالبلاد إلى مسار آخر غير الذي يُراد لها، راغمةً، السير فيه بمناسبة هذه الرئاسيات. تُعدّ دروس 1999، عندما انسحب المرشحون، بعد إدراكهم أن الانتخابات ونتائجها كانت محسومة في 2004، عندما أدرك الشعب أن الانتخابات نُظّمت بسيناريو الرّابح الأكيد (مرشح السلطة) ومن يمنحه المصداقية، تعد تلك الدروس ذات عبرٍ لما يجري الآن، تفتح الباب، واسعا، للتفكير في "الموقف الثوري" الاستراتيجي لصنع التّغيير الأكيد لمستقبل البلاد.
من ناحية أخرى، يجب التّأكيد أن مناط التغيير ليس الصندوق، ولكن ندوة وطنية توافقية تعمل وفق إجرائية المجلس التّأسيسي يعمل على إقرار دستورٍ يصاحبه إقرار إجرائية بناء المؤسسات، من خلال انتخاباتٍ تمثيليةٍ يشارك فيها الجميع، وبضمانات تجعل منها، حقا، عرسا ديمقراطيا.
يحتاج "الموقف الثّوري" إلى "حركة إبداعية" و"إجماع وطني" من المجتمع المدني، ومن الشخصيات الوطنية ذات المصداقية، يكونان في مستوى الإجماع والإبداع الذي أدّى إلى ثورة نوفمبر في العام 1954، وصنع التغيير الوحيد الناجح للبلاد، والذي انتهى بدحر الاستعمار الفرنسي.
هذه هي الحركة/ الحركية الوحيدة التي يملكها الجزائريون الآن، وينتظر الجميع بارقة أمل بمؤشر التّراجع عن منطق "الخروج من التاريخ" والانقلاب على مسارٍ يُراد به تثبيت دعائم "الاستمرارية" في ثقافةٍ سياسيةٍ نراها غير ناجعة وغير ناجحة للبلاد والعباد.
الجميع ينتظر، والأمل معقود على الجزائر الكبيرة لصنع "الموقف الثوري"، مناط التغيير في البلاد ومستقبل البلاد. وقد تكون الأشهر الثلاثة التي تفصلنا على ذلك الموعد فاصلا للتفكير وتجسيد ذلك الموقف، وإن غدا لناظره لقريب.