في معظم الحوارات التي يجريها الروائي العربي، يواجه سؤالاً يريد منه أن يؤكد علاقته بالواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، أو ينتمي إليه. وتزداد حدة مثل هذه الأسئلة، أو تتخذ وضعية الأسئلة المركزية، كلّما مرت البلاد، أو مرت المنطقة العربية بكاملها في منعطفات اجتماعية، أو عسكرية، أو تاريخية ما.
فأنت ترى أن الصحافة، والصحافيين، صامتون، يعملون في شؤون الحياة المختلفة، ويكتبون التحقيقات والتغطيات المتنوعة، إلى أن تدخل البلاد في منعطفات، أو أحداث كبيرة. وعندئذ يحدث أمر غريب، بل هو في غاية الغرابة. إذ تبدأ معظم الصحف، الكبرى منها والصغرى، وسوف تنال الكبرى حصة كبيرة من المواد، في ملاحقة الكتّاب، والروائيين منهم على وجه الخصوص، أو في متابعتهم، أو في استشارتهم، في المسألة الكبيرة التي تواجه بلادهم.
وفي كل حال، فإن الروائي مجبر على الإجابة عن السؤال الجوهري المتعلق بموقفه الوطني، أو الاجتماعي في المواقف الأكثر خطراً: كيف يمكن أن يتجسد الحدث الوطني (ذو الرقم ثمانية مثلاً) في أعمالك الروائية؟
وهو سؤال ينطوي على يقين بأن الروائي كائن شبه أسطوري، أو أن الروائي والرواية مرهونان، أو منذوران للعمل الوطني والسياسي والاجتماعي. إذ لا يُسأل الكاتب عن فنه. بل عن مهامه "الوطنية" و"الفكرية". وسوف يترتب على الإجابات القسرية -إذ قلّما امتنع الروائيون أنفسهم عن الانزلاق وراء إغراء القيمة الاجتماعية والسياسية- في مثل هذه الحالات أن "يعترف" معظم الروائيين بتورطهم في "الهم" الوطني، وبهاجسهم الاجتماعي والسياسي العامين.
وفي أغلب الاستبيانات يتبارى الكتّاب في سباق للمسافات الطويلة من أجل إثبات أولوية أي منهم في النبوءات المتحققة، أو الرسائل الوطنية النبيلة. حتى تكاد الشهادات تبدو مثل التواطؤ الإعلامي المعروف الغرض، الذي يشارك فيه الكاتب والصحفي. وقد تداول السوريون طرفة عن كاتب "روائي" سُئل، عندما كان ما يزال ضابطاً في الجيش، لماذا لا يهتم في أعماله بفن الرواية؟ فرد غاضباً: وهل تريدني أن أصرف انتباهي إلى الفن، بينما يحتل العدو الصهيوني الجولان، ويحاصر أهلنا في فلسطين؟ عن أي فن تتحدث؟ وفي هذه الحالات لا نرى من يسأل السياسي مثلاً عن رأيه في المسألة عينها التي قد يكون هو أحد صناعها.
فهل نحن أمام حدث يصنعه السياسيون، ويبدي رأيهم فيه الروائيون؟
يمكن وضع رواية البؤساء لفيكتور هيغو كمثال عن الاهتمامات الاجتماعية والسياسية للروائي، بينما يقف الفرنسي رابليه في الجانب الآخر المشغول بالتأسيس لفن الرواية.
وقد يكون هيغو هو الذي يحوز على الشهرة في الضمير العالمي، وقد ترجمت رواية "البؤساء" إلى معظم لغات العالم، غير أن رابليه لا يقل حضوراً، وأهمية. وإذا ما كان أقل مقروئية، حتى في الثقافة الفرنسية، فإن من المستحيل على أي عارف أو مطلع على فن الرواية في العالم كله، تصوّر وجود هذا الفن، وتطوره، دون أعمال رابليه الرائدة.
اقرأ أيضاً: أدب المنفى: مطرودون ومشتاقون