ذكريات إذاعية

18 فبراير 2019
+ الخط -
قبل دخولي الإذاعة المصرية عام 2003، كانت علاقتي بالإذاعة وطيدة؛ فأنا مستمع بكل جوارحي لعدد من البرامج الإذاعية. ومع اليوم العالمي للإذاعة، يروق لي الحديث عن بعض هذه الذكريات، وقد تركت في النفس بصمة لا تُمحى، وأجدني -بين حين وآخر- أبحث عن برامج استمعت لها في طفولتي، وارتبطت ببعض الشخصيات الإذاعية أمثال بابا شارو، وطاهر أبو فاشا، وشيخ الإذاعيين علي خليل.

إن لم تسمع ببابا شارو، فأنت لست من جيل الطيبين، وقد فاتك صوت إذاعي رخيم، وأفلت من يديك قلم رشيق الوقع في الأذن، وقد جاءت به الصدفة إلى الميكروفون، تقريبًا نفس الصدفة التي عرف بها صوت "ليس براون" طريقه للجمهور.

في البداية، كان محمد محمود شعبان يعمل معدًا في الإذاعة، ويشاء ربك أن يتغيب أحد المذيعين لظرف طارئ، ويتورط المخرج والمنتج في المسألة، ويقترح شعبان أن يؤدي الحلقة، "ولا من شاف ولا من دري"، وأهي حلقة تفوت ونخفي على الخبر ماجور!


بعد تردد وتحت سيف الوقت، وافقت الإدارة على اقتراح شعبان، وأسرع إلى مكتب المدير الإنجليزي للإذاعة، واستعار كتاب قصص أطفال، وأضاف للقصة تحابيشه الخاصة ولمساته الفريدة، وقوبلت الحلقة باستحسان منقطع النظير؛ ليولد نجم إذاعي قدير بطريق الصدفة المحضة. أما عن قصة الاسم "بابا شارو"؛ فللصدفة فيه نصيب الأسد، وذلك أنهم كتبوا "بابا شعبان"، لكن مذيع الربط قرأها بالخطأ غير المقصود "بابا شارو"؛ فلازم (شارو) محمد محمود شعبان إلى هذه اللحظة.

تتلمذ على يدي بابا شارو عمالقة الإذاعة المصرية، وتزوج إحدى تلميذاته الأستاذة صفية المهندس، وهو الذي اقترح على فاروق شوشة اسم برنامج "لغتنا الجميلة"، وهو البرنامج الذي كان مفترضًا أن يقدَّم في دورة إذاعية واحدة؛ فامتد لسنوات وتعلمنا منه روعة الإلقاء وفن الشعر. وإلى جانب بابا شارو يقف عملاق درعمي، إنه الأستاذ طاهر أبو فاشا (ابن دمياط)، ولك أن تتخيل بدايات الرجل.

آمن والده بأن صنعة في اليد أمان من الفقر، وأصر أن يعمل ولده الوحيد معه في تجارة الحبوب، وظل على هذه الشاكلة حتى ألمّ الكساد بتجارته، ورأى الرجل أن تجارة الأحذية لا يصادفها الكساد، واقترح عليه بعض أصدقائه أن يُلحِق ولده بورشة أحذية "يُلْقُطِ" الصنعة، ويضمن كسب قوت يومه ودهره.

اشتُهرت دمياط بانتشار ورش صناعة الأحذية؛ فألحقه والده بورشة الشاذلي وبدأ يشرب الصنعة، ولكل مهنة مصطلحاتها الخاصة، ومن مصطلحات ورش الأحذية الأوكشة (وهي الفتلة التي تستخدم في خياطة الحذاء)، واللفق والتأكيش وغيرها من مفردات الصنعة التي فهمها الولد سريعاً، وأصبح "لهلوبة" في العمل وشعلة في النشاط.

كل ذلك والابن يدرس في الأزهر الشريف، وانتقل من كفر مويس إلى المسجد الأحمدي في طنطا، ومنه إلى المعهد الثانوي بالزقازيق، ثم إلى كلية دار العلوم بالقاهرة، وكتب للإذاعة المصرية أعمالًا خالدة وضع بها بصماته على قلوب ووجدان أجيال، ويكفي أن تعلم أنه كتب ما يربو على 200 عمل إذاعي منها حلقات "ألف ليلة وليلة"، التي امتدت 26 سنة بتمامها، وأخذنا صوت الفنانة القديرة زوزو نبيل بقوته وسحره، ولليوم نسعد بالاستماع لتلك الحلقات.

ويأتي شيخ الإذاعيين الأستاذ علي خليل، وهو رجل أثبت لنفسه قبل غيره أن الهمة تصنع الرجل، وأن الشهادة الدراسية ليست عائقًا أمام من يبحث عن النجاح. حصل خليل على مؤهل متوسط "دبلوم تجارة"، وعمل موظفًا بالإذاعة وفي عام 1956 واتته الفرصة لاستكمال تعليمه؛ فاقتنصها ونال بكالوريوس الإعلام من جامعة كولومبيا الأميركية. لم تمنعه بداياته المتواضعة أن يحلم، ولم يقف عند مجرد الحلم، بل ترأس الإذاعة المصرية باجتهاده ومهنيته.

الذكريات الإذاعية لا تنتهي، وهي بين أصوات وبرامج شكلت وجداننا صغارًا، ورسالة إعلامية دسمة الثقافة والفكر، ويبقى أريج الإذاعة بقاء أذن الإنسان وسمعه؛ فكل يوم وجميع الإذاعيين بخير، ولنا مع البرامج الإذاعية أحاديث تطول.