كان والده ابن الناصرة يعمل في سكة حديد الحجاز، وبحكم الوظيفة انتقل مع عروسه إلى العيش في دمشق في شباط/ فبراير من عام 1907، وبالتحديد في الميدان التحتاني، وفي مثل هذا اليوم، الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، ولد المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة (1907-2006).
في دمشق سيذوق الصبي طعم اليتم بعد أن أخذ العثمانيون والده إلى التجنيد ويمرض، وحين عجزت والدته أن تعرف في أي مستشفى كانت تذهب بالتناوب مع ابن الثامنة إلى المستشفيات المختلفة بحثاً عن زوجها المفقود، كان نقولا يدخل ويكشف عن وجوه الأموات ليتعرف على والده، وتركت هذه الأيام جرحاً في نفسه حمله معه وأمه عائدة به إلى فلسطين بعد أن اكتشفا أن الأب قد دُفن منذ مدة وأن بحثهما كان عبثاً.
نقرأ عن طفولة المؤرخ التي امتلأت بالموت في مذكرات زيادة "أيامي" (1992)، بعد عودته مع أمه وإخوته الثلاثة بأشهر قليلة توفي خاله وهو يلعب بقنبلة وبعده توفيّت خالته بالكوليرا ثم جده.
حاول الفتى ابن الـ 12 أن يعمل لمساعدة والدته فغضبت عليه وأصرّت أن يلتفت إلى دراسته، وبالفعل كان تفوقه سبباً في دخولة دار المعلمين وهو أصغر من 15 عاماً وكان ذلك ضد قانون الدار آنذاك، لكنه تقدم لامتحان القبول وكان الأول على كل المتقدمين الأكبر عمراً فلم يكن من الممكن رفضه.
ولع زيادة في البداية كان منصباً على الرياضيات لكن الصدف شاءت أن يجري تعيينه مدرساً للتاريخ والجغرافيا في مدرسة عكا، فكرس كل وقته للاطلاع أكثر فأكثر ووجد أنه غرق تماماً في التاريخ، ساعدته رحلاته الطويلة في المشي، التي صقلت لديه القدرة على ربط الجغرافيا بالتاريخ، وهذا ما ظهر في كل كتاباته وتفسيراته التاريخية التي ارتبطت بالجغرفيا محركاً للأحداث السياسية والاقتصادية أيضاً.
كان زيادة يعشق المشي في بلدات فلسطين وبين قراها ويحفظ تاريخها، وذهب مشياً إلى لبنان وسورية عام سنة 1925 برفقة أستاذه الذي صادقه درويش المقدادي. يروي كيف مشى من شمال فلسطين إلى أنطاكياً مروراً بكل لبنان والجزء الساحلي من سورية.
في عام 1935 اختير لبعثة للدراسة في لندن وهناك تخصص في التاريخ ودرس اللغتين الألمانية والفرنسية القديمة. بعد هذا التاريخ بثمانية أعوام سيصدر كتابه الأول "رواد الشرق العربي في العصور الوسطى" (1943) ثم "وثبة العرب" (1945) قبل أن يعود إلى لندن ثانية ويحصل على الدكتوراة عام 1950عن أطروحته "سورية في العصر المملوكي الأول".
درّس زيادة في عدة جامعات؛ في "الأميركية" و"اليسوعية" في بيروت، وفي الجامعة الأردنية في عمّان، وأصدر أكثر من أربعين كتاباً، كان آخرها "المسيحية والعرب" عام 2002، وترجم كتاب "الفكر اليوناني والثقافة العربية" لديمتري غوتاس عام 2003. وكان قد تطرق في بعض مؤلفاته المبكرة إلى قضايا مثل القومية العربية في كتابه "العروبة في ميزان القومية" (1950).
في مقابلة معه أجريت في 2002، يقول زيادة عن القومية: "كنت من دُعاة القومية العربية، لكن أنا كنت أدعو إليها بفلسطين، كان منبري صغير، لكن الذين دعوا إليها من العراق ومن مصر كان منبرهم كبيراً، ثم جاءت فكرة أخرى ما دام هناك قومية عربية لا بدّ أن تكون هناك وحدة عربية. الذين تحدثوا عن الوحدة وكتبوا عنها أكثر بكثير من الذين كتبوا عن القومية العربية، إلى درجة أنه جاء وقت على بعض الشباب يحسب أن الوحدة العربية ستعلن بعد غد".
يكمل "أظن أن من الأشياء التي أضعفت القومية العربية (...) الهبّة الكبيرة التي حدثت فيها على يد جمال عبد الناصر. ولكن لما حدثت وحدة وانفصمت كانت هذه فعلاً كافياً أن يحمل المنطاد العالي ثم أن يهبط به مرة واحدة لأن الغاز انتهى منه". كما يقول: "القومية عندي باختصار، شعوري الناشئ عن الانتماء، لكن ليس نتيجة الغوغائية، نتيجة فهم التراث، ومن هنا أدعو إلى فهم تاريخ العرب، وتراث العرب فهماً صحيحاً، لا فهماً معقداً مفبركاً كما يحدث الآن".