لبعض الوقت، صدّق الناس أن بودلير (1821-1867) الذي تمر ذكرى ميلاده اليوم، مهتم بالسياسة، كان يثور أحياناً ثم يشارك في تحرير الصحف والمنشورات الرجعية ضد الثوار (كما يذكر ريتشارد كلاين في دراسته "بودلير والثورة: بضعة ملاحظات")، كان حين يسمع الشباب في اجتماعاتهم يتساءلون ما هي الخطوة التالية، يقترح دائماً أن يقتلوا الجنرال أوبيك، زوج أمه كارولين، وحين كان يُسأل من هذا، يُروى أنه كان يجيب: "لا عليكم إنه رجل متنفذ جداً".
كانت كارولين، هي المحور الذي يقوم عليه عالم بودلير بأكمله، وبقدر ما حمل من حب لوالدته حمل كراهية لزوجها امتدت واتسعت إلى كراهية لكل شكل من أشكال السلطة. لم يحاول بودلير أبداً أن يجعل لغضبه من معنى سياسي حقيقي، وكانت هذه المشاركة الغريبة في الثورة نزوة من نزواته التي لا تنتهي، إنه مشدود كوتر ودائماً على بعد شعرة من الجنون من شدة الحياة وكثافتها داخله.
انتقد سارتر بودلير بخصوص هذه المرحلة، واعتبر أنه لم يكن على استعداد للانخراط في أي شكل من الارتباط الثوري إلى درجة أنه قبل بقيم المجتمع البرجوازي، بينما هو يخدع نفسه بأنه يندّد بنفس القيم. يرى سارتر أن بودلير لم يكن يريد أن يحطم هذه القيم ولا أن يرتقي إلى غيرها، كل ما كان يريده هو أن يصطدم بنظام الأشياء، غير أنه كان كلما هاجمه كلما زاد احترامه لهذا النظام.
أرسله زوج والدته بعيداً عن باريس، للدراسة في مدرسة داخلية في ليون، لكنه سرعان ما طُرد منها حين أمسك به المعلّم يتناول ورقة من زميله ويضحك، فطلب منه تسليمها إليه ورفض بودلير قائلاً إنه لن يخون ثقة زميله. سيحاول الجنرال أوبيك إبعاد الفتى بأن يضعه على متن باخرة ذاهبة إلى الهند. أحبّ الشاعر القارب والهند بعض الوقت، لكنه سرعان ما شعر بالحنين والخوف فعاد إلى باريس وبدأ بتحبير مسودات "أزهار الشر" محملاً بصور رحلته البحرية الطويلة وبتأثره العميق بالبعد عن والدته وباريسه خلال كتابتها.
كانت باريس تتشكل من جديد وكان الشاعر يعيش هذا التشكل، صحيح أنه أطلق النار على ساعة في زمن الثورة، لكنه لم يوقف الزمن ولم يغيره، فبعد نجاح مؤقت للثورة، وبحلول حزيران/يونيو 1848، ذُبح الثوار والعمال في الشوارع، ومع نهاية 1851 حصل الفرنسيون على دكتاتورية جديدة تحت حكم نابليون الثالث. السلطة المحافظة باقية، لكن باريس تتغير.
لاحقاً، بدأ المعماري ورجل الدولة جورج هوسمان تخطيط باريس من جديد، باستبدال الشوارع الضيقة والعطنة بأخرى فسيحة ومقببة ومليئة بالأضواء، أحياء بأكملها جرى تجريفها وأولئك الذين لم يغادروا شوارعهم وأزقتهم حيث دكاكينهم وبيوتهم اضطروا للتشرّد وقد تغيرت علاقتهم مع المدينة وأصبحت باريس مدينة اقتصادية. تحولت بالنسبة لكثيرين إلى مدينة من الغرباء، أشخاص جدد تراهم طوال الوقت، وتصطدم بآخرين لم ترهم من قبل، وسوف يصبح هذا الاصطدام مادة لشعر بودلير، الذي يمكن وصفه بأنه كان المتسكع والمتأنق البوهيمي الغريب في آن.
كتب بودلير "الفراديس المصطنعة"، و"رسام الحياة الحديثة"، و"الفضول الجمالي"، و"قلبي يتمدد عارياً"، و"شجون باريس" وغيرها من الأعمال ضمن قوالب المقالة والقصيدة والخاطرة، ومات بالسيفلس، مثلما عاش ممزَّقاً بالحزن والحب والأفيون ومصاباً بالحياة وبصخبها في أعلى درجاته.