ذكرى ميلاد: رومان جاكوبسون.. ترحال بين الألسنة

23 أكتوبر 2019
رومان جاكوبسون
+ الخط -

بعد أن أطلق عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير (1859 - 1913) مشروع علم اللسانيات، في نهايات القرن التاسع عشر، بقي هذا المجال المعرفي المستحدث يراوح مكانه، فبعد "دراسة اللغة ضمن الفضاء الاجتماعي العام" ما الذي يمكن أن يفيد به علم اللسانيات بقية فروع المعرفة؟

في فرنسا، حيث أطلق دي سوسير مشروعه، ورغم كثرة تلاميذه إلا أنهم لم يذهبوا بنظرياته أبعد مما وصل إليه، بل إن الإضافة جاءت من روسيا التي كانت في بداية القرن العشرين فضاء لنشاط باحثين كثيرين انطلقت دراساتهم من محاولة فهم تلك الأعمال الرائدة التي قدّمها كبار المؤلفين الروس طوال القرن الشعرين مثل دوستويفكسي وغوغول وتولستوي وتشيخوف.

ضمن هؤلاء، والحلقات التي أنشأوها، ظهر رومان جاكوبسون (1869 - 1982)، الذي تحلّ اليوم ذكرى ميلاده، وكان من أوائل الروس الذين قرأوا لـ دي سوسير، ومن هنا بدأ في ربط دوائر البحث هنا وهناك، الأدب بعلم اللسانيات، وما وصل إليه الباحثون الروس بما يتداوله المتخصصون في فرنسا، ومن ثمّ طرح مشروعاً أوسع يتعلق بكيفية إنتاج بنى اللغة لكفاءات التواصل.

لم يكن هذا اللقاء نتاج قراءات فحسب، حيث أن جاكوبسون كان كثير التنقّل في الفضاء الأوروبي الواسع وقتها نظراً لاشتغاله بالترجمة مع فرق "الصليب الأحمر"، واستقر في براغ التي وجد فيها مجموعة من الباحثين المنشغلين هم أيضاً بمسائل اللغة، ومن هذا اللقاء ستنشأ مدرسة في علم اللسانيات عُرفت بـ"حلقة براغ"، غير أن جاكوبسون سيضطرّ لمغادرتها مع احتلال ألمانيا النازية للأراضي التشيكية، متجهاً نحو الدنمارك ثم النرويج، وهي بلدان عرفت نفس المصير، ليقرر اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيجد جزءاً كبيراً من عالم البحث العلمي قد سبقه، وهو إطار ساهم في التقاء معارف كثيرة واستفادتها من بعضها البعض.

في سنوات الأربعنيات تلك، وحتى ستينيات القرن الماضي، أصبح جاكوبسون حامل راية اللسانيات، خصوصاً مع تغذيتها بالأنثربولوجيا، ما أنتح تيار البنيوية الذي اكتسح مناهج البحث زمنها، إضافة إلى قدرته التنظيرية وإخراج المسائل اللغوية إلى تعميميات متينة، وكانت أبرز إسهاماته تحديد وظائف اللغة وعناصر كل رسالة تنقلها اللغة.

كانت هذه الإسهامات سبباً في تطوير مجالات متعدّدة لعلّ أبرزها الدراسات الأدبية التي التقطت بالخصوص مفاهميه الحديثة حول الشعرية والتواصلية وإنتاج المعنى، إضافة إلى مجالات أخرى مثل علوم الاتصال والتاريخ والعلوم السياسية. وعلى الرغم من انحسار موجة البنيوية لاحقاً، وفقدانها مكانتها المركزية في عالم المعرفة، بقي جاكوبسون معترَفاً به كأحد أبرز من جعلوا من اللغة مادة قابلة للفهم وتطبيق نتائج البحث النظري حولها في ما هو ملموس.

المساهمون