قبل سنة من رحيله، صدر فيلم وثائقي بعنوان "علم الاجتماع.. رياضة قتالية" كان بطله – إن جاز التعبير على الأفلام الوثائقية – عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002). فكرة العمل بسيطة: متابعة مفكّر في مسار يوم عادي.
يبدأ الفيلم بتلبية بورديو دعوة برنامج إذاعي. يشير المقدّم إلى أن جمهور الحلقة ليس بالضرورة عارفاً بأعمال بورديو، ولا يملك حتى خلفيات كافية في مجال السوسيولوجيا. من هنا، نسمع في البداية تعريفاً لهذا العلم من القاموس: "علم الاجتماع: دراسة علمية لظواهر اجتماعية لدى البشر". وحين يطرح المقدّم أول أسئلته، يستسمحه بورديو بالعودة إلى الوراء، ويقول "لا أعتقد أن التعريف الذي سبق عرضه يمكن للمستمعين أن يخرجوا منه بفهم لعلم الاجتماع، ولا حتى لي أنا".
بهذه الملاحظة، يمكن القول إن بورديو قد شرح جزءاً من منجزه الذي قام على "عدم الافتتان بالكلمات"، وأكثر من ذلك جعل ممارسة البحث السوسيولوجي نقداً للسوسيولوجيا ذاتها.
يشترك بورديو مع مفكّرين آخرين من جيله، فوكو ودريدا بالخصوص، بكون لحظة البدايات الفكرية لم تكن في "المركز"، الجامعات الباريسية تحديداً، فطالما أشار، هو وكتّاب سيرته ودارسوه، إلى الجزائر كمنطلق حقيقي لمسيرته، حيث أنه بعد تخرّجه مباشرة أُرسل إلى الجزائر، منتصف الخمسينيات، ضمن واجب الخدمة العسكرية.
لقد أتاحت له هذه الفرصة الابتعاد عن "العظمة المغالطة للفلسفة" التي كانت سائدة في فرنسا، وخصوصاً في مجال علم الاجتماع، فمن ناحية مكّنته من وضع مسافة ضرورية كي يرى بصورة أحسن ما تحقّق في علم الاجتماع وهو يخرج من بين يدي الروّاد، ومن جانب آخر احتكّ ببيئة خارج المركزية الأوروبية ومارس علمه بشكل تطبيقي. ورغم أن منجزه اللاحق سيخفي إنتاجات المرحلة الجزائرية، إلا أنها ظلّت علامة فارقة في مشواره.
ما يُحسب لبورديو أنه كان ذا قدرة على إنتاج مفاهيم متقنة. يمكن الحديث هنا عن صنعة. مفاهيم تحمل إمكانيات عالية لـ تفسير الواقع، ومرتبطة به بشكل عضوي، مثل: العنف الرمزي، وإعادة الإنتاج، ورأس المال الثقافي، والحقل الاجتماعي، ويبقى أشهرها مفهوم الهابيتوس الذي حقّق به "حلماً" من أحلام السوسيولوجيا بربط التنشئة الاجتماعية مع التصرفات الفردية.
ربما كانت هذه القدرة نتيجة انفتاح على أكثر من رافد، وكثيراً ما أشار الباحثون إلى وجود أكثر من منهل لهذا المفهوم أو ذاك مما وضعه بورديو، بين كارل ماركس وماكس فيبر ومارتن هايدغر وكلود ليفي-سروس ولودفيغ فيتغنشتاين وغيرهم.
وكما تنسب شخصيات متقنة مثل الأب كارامازوف والأمير مشكين وراسكولنيكوف إلى دوستويوفسكي، فيقال عنه إنه صاحب صنعة في بناء الشخصيات، يمكن أن نقول نفس الشيء، لكن على مفاهيم بورديو، فهي مفاهيم نشعر وكأنها تتحرّك على الأرض، ومن لحم ودم، تتفاعل فيما بينها لترسم فضاء واسعاً وتنقل صورة ذهنية عن واقع معقّد ومبثوث في التفاصيل الصغيرة للأحداث اليومية.
تظهر جودة الجهاز المفاهيمي الذي وضعه بورديو أيضاً، في انتقالها من مجال إلى آخر بحرية وعفوية، من العلم إلى التربية مروراً بالفن والأدب والإعلام والرياضة. ربما استفاد صاحب "قواعد الفن: تكوّن وبنية الحقل الأدبي" من حرصه على عدم الافتتان بالكلمات حتى وهو ينتجها، أو يشحنها بدلالات أخرى، وكان ربما يعرف أن المفهوم ينبغي أن يكون عُملة اجتماعية وإلا فلا علاقة له بعد ذلك بموضوعه. لذلك لم ينس بورديو ما تنساه الممارسة العلمية في كثير من الأحيان: إنتاج معنى وحُسن بذله للتداول العام.