قبل اثنين وسبعين عاماً بدأت نكبة الشعب الفلسطيني؛ ففي عام 1948 خسر أبناؤه جزءاً كبيراً من وطنهم، ثُمّ بعد عشرين سنةً خسروا الجزء المتبقّي من وطنهم التاريخي، وبعد ثلاثين سنة أُخرى خسروا إمكانية إقامة "ميني-دولة" مبتسرة ومقصوصة الحدود عن حدود 1967 على بعضٍ من ترابهم الوطني كما يبدو اليوم. ولكنهم، مع كلّ هذه الخسائر المتتالية، لم يفقدوا قط انتماءهم لفكرة فلسطين كأرض وكوطن: فكرة ما زالت تعيش في قلوبهم وتسكن أحلامهم، وصيرورة ما زالت ترنو إلى أمل التحقُّق.
فالفلسطينيون أثبتوا، من خلال جلجلتهم المتطاولة والتراجيدية، أنهم شعب حيٌّ تمكّن من الحفاظ على ذاكرته الجمعية عبر الزمن وخلال الهجرة والتشرّد ونقلها لأبنائه وبناته، حتى أولئك الذين وُلدوا وعاشوا وماتوا خارج فلسطين.
هذه الذاكرة ما زالت تتّقد اليوم، ليس فقط كأداة زهو بماضٍ أفضل ومجد بعيد (وهو كذلك)، أو كبديل ملفَّق لواقع صعب (وهو كذلك أيضاً)، وإنما كجذرٍ فاعل في التكوين الفردي والجماعي لكل الفلسطينيين، وكمُعطىً وجودي في مساراتهم الحالية والمستقبلية يلمّ شملهم ويمنحهم شعوراً بالانتماء والتفاعل مع بعضهم البعض ومع العالم الواسع حولهم، مع انتفاء المعطيات الأُخرى من أرضٍ ودولةٍ وحدود.
في وضع كهذا، تتحوّل الذاكرةُ إلى بؤرة تتجمّع فيها كلُّ التعبيرات الثقافية للهوية من أغانٍ ورقص وملاحم وقصص وأزياء وفنّ وعمارة ومطبخ ومأكولات وغيرها، ربّما لتعوّض الناس عن التهديد الوجودي الحقيقي الذي ما فتئوا يواجهونه منذ أكثر من قرن، ولتشحن قدرتهم على مواجهة التحدّي الهوياتي والمحافظة على حسّ الانتماء إلى الذات والوطن والأرض المفقودة.
ولكن الذاكرة الوطنية كالهوية ليست حقّاً طبيعياً ولا إرثاً كيانياً أزلياً ثابتاً في كل لحظة ومنفصلاً عن واقع أصحابه من أبناء وبنات الوطن. بل هي، كالهوية أيضاً، منتج تاريخي ديناميكي، مرتبط بشروط تاريخية وثقافية واجتماعية علائقية مع من ينتمي إليها، تتحرّر وتنتعش بتحرُّر وانتعاش شعبها، وتتقوقع وتتآكل بتقوقع وتخلُّف شعبها أو باستسلامه لواقع أليم مفروض عليه فرضاً.
بمعنى آخر، الذاكرة، مثلها مثل أيّ عامل اجتماعي آخر، موجودةٌ ومصنوعة في الآن نفسه. وهي بالتالي خاضعةٌ للإرادة والتخطيط الإنسانيَّين، على الأقل جزئياً. وهي في ذلك كبذرة القمح، فيها حياتها، ولكنها لا تنمو وحيدةً من دون مساعدة، بل تذوي وتموت إذا أُهملت، وتينع وتثمر إذا لاقت الرعاية والاهتمام. وعليه، في ذكرى النكبة هذه، أود أن أقترح - كمعمار ومؤرّخ - برنامج تذكُّر واستعادة يسعى إلى تعميق موقع فلسطين في الوعي الوطني الفلسطيني والعربي والإسلامي لكي تبقى الذاكرة وسيلةً نضال تلعب دورها الأهم في ربط الأرض بالقوم وبالتاريخ، خاصة بعد تطاول الهجران وتكاثر الأعداء وانسداد أفق كلُّ الحلول السياسية المطروحة على الساحة اليوم.
ما أودّ التركيز عليه هو استعادة ذكرى الأحداث المصيرية المرتبطة بالأرض وترسيخها تصويرياً أو معمارياً وتفعيلها كمحفّزات للانتماء ومرتكزات للشعور الجماعي، خاصّةً أنَّ مواقع هذه الأحداث مستحيلةُ الوصول على غالبية الفلسطينيّين والعرب. ولذا فأنا أقترح أدوات عملية، معمارية وفنية بشكل أساسي، ولكن من دون غمط أيّ أداة ثقافية أُخرى حقّها في صياغة الذاكرة وتأطيرها. ولأبدأ من مركز الهوية الفلسطينية الأول والأهم، القدس، وبشكل خاص حرمها الشريف وقبّة الصخرة والمسجد الأقصى. نحن نعرف الخطر المحدق بالحرم الشريف ومبانيه الإسلامية على يد اليهود المهووسين دينياً والساعين إلى إزالة الوجود الإسلامي من هذا الموقع المركزي وإعادة هيكل سليمان الذي لم يُعرَف له موقع أركيولوجي حتى الآن، على الرغم من كل التنقيبات التي قام بها منقّبون إسرائيلييون عديدون مباشرةً تقريباً إثر دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى القدس عشية هزيمة 1967، والتي كشفت أربعة قصور أموية تزنّر الحد الجنوبي والغربي للحرم، أُهمل التنقيب فيها بعد اكتشاف هويتها الإسلامية.
ونحن نعرف، أيضاً، المحاولات المتتالية لترميم المسجد والقبّة التي قامت بها سلطات إسلامية وعربية عديدة مثل حكومتي مصر في الخمسينيات والأردن في التسعينيات وغيرها. ولكن غالبية الفلسطينيين والعرب غيرُ قادرين على الوصول إلى هذا الحرم العزيز على قلوبهم والمترسّخ في وجدانهم التاريخي.
ومن نفس المنطلق، هناك مواقع أخرى لعبت أدواراً مصيرية في التاريخ الإسلامي ولا وصول لها اليوم، بل حتى لا معرفة بحالتها المعمارية اليوم. أهمّ هذه المواقع موقعان شهدا موقعتين مفصليتين في سيرورة المنطقة: موقعة حطّين وموقعة عين جالوت. الأولى انتصر فيه صلاح الدين بن أيوب وجيشه على الصليبيّين واستعاد القدسَ والكثير غيرها من المدن الفلسطينية عام 1187. والثانية انتصر فيها السلطان المملوكي المظفّر قطز على المغول وأوقف مدّهم الرهيب عام 1260.
نعرف أن صلاح الدين قد بنى قبّة، سماها قبّة النصر، على قرن حطّين تخليداً لانتصاره كما يقول مؤرّخوه وبعض الحجّاج الأوروبيّين الذين مرّوا بالموقع الذي أعاد اكتشافه في نهاية القرن العشرين أركيولوجيٌ إسرائيلي، يُدعى زڤي غال، ووجد فيه بقايا جدران إمّا مستودع أو خزّان للمياه. ونعرف أيضاً أن الظاهر بيبرس، الذي قاد هجوم جيش قطز ثم اغتاله بعد ذلك وتسلّم السلطان مكانه، قد بنى في موقع معركة عين جالوت قبّة نصر أخرى لم يبق منها شيء يُذكَر.
بما أنَّ هذه المواقع المزدحمة بذكريات النصر والاستعادة والنهوض من الكبوات هي في يد "إسرائيل" اليوم، وبما أن إقامة قبب نصر أو نُصب تذكارية تُعيد إحياء هذه الأحداث الجسيمة فيها شبه مستحيلة، فلم لا نلجأ لوسيلة تذكّرٍ معماري أخرى: مسابقات معمارية دولية لمعماريّي ومعماريات فلسطين والعرب والعالم أيضاً. هذه المسابقات ستروم تشجيع الشبان والشابّات من المعماريّين على دراسة العمارة التاريخية في فلسطين وفي العالم الإسلامي واستنباط تعابير معمارية جديدة مستوحاة منها، والتنافس بتصاميم على إعادة إحياء ذكرى الوجود الدولتي في القدس عبر إعادة تأهيل القصور الأموية (وربما في الرملة أيضاً التي بناها سليمان بن عبد الملك لتكون عاصمة جديدة إمّا للدولة ككل أو لجند فلسطين)، وتذكُّر نصرَي حطّين وعين جالوت عبر نصب حديثة.
وبما أن بناء هذه النصب لن يكون ممكناً، فلكي نُعمّق تأثير العمارة المصمَّمة، يمكن إعداد مؤتمرات تناقشها ومعارض جوّالة على المدن العربية والإسلامية تُظهر نوعية ومعنى وشمولية المسابقات ونتائجها وتصنع في مخيلة زوّارها صوراً لنُصُب تستعيد التاريخ وتتشبّث بمواقعه. هذا ما حصل مراراً في التاريخ الحديث، مثل مسابقة قصر السوفييت في موسكو، أو مسابقة الهيرالد تريبيون في شيكاغو، أو مسابقة مسجد الدولة في بغداد التي لم يُنفَّذ أيٌّ من تصاميمها ولكنها مع ذلك ما زالت تُدرَّس في مدارس العمارة في العالم وتؤثّر على الفكر المعماري مع بقائها كما يقال "حبراً على ورق"؛ فالصور - بوجود أو بانتفاء الوجود المبني على حد سواء - هي مرسّخات للذكرى والتذكُّر ووسائل تواصل حقيقي وتاريخي من الدرجة الأولى إلى أن تتحقّق العدالة.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا