"معنى النكبة"، نكبة فلسطين، عنوان دائم الحضور منذ أن وضعه قسطنطين زريق (1909- 2000) عنواناً في شهر آب/ أغسطس 1948 لأحد أشهر الكتب العربية في تحليل هذه الكارثة التي تجاوزت الخسارة المادية -كما قال- إلى الانتكاس المعنوي الروحي، ثم عاد إليه وجدّده في عام 1967 بأن وضع كتاباً تحت عنوان "معنى النكبة مجدداً".
ويبدو لنا، في ضوء ما ألمّ بالوعي العربي، بل والمخيّلة العربية أيضاً، بمرور الأيام، أن هذا المعنى ظل بحاجة ملحّة إلى أن يُطرح وأن يجدّد مرة بعد مرة، ولكن على صعيد إنشاءات الوعي، أي الفنون والآداب بخاصة والنتاجات الثقافية بعامة.
إن نكبتنا أدبياً وفنياً وثقافياً هي ما احتاجت وتحتاج إلى استقصاء وبحث عن معناها مجدداً في كل منعطف مرت وتمر به قضية استعمار فلسطين، وما أكثر المنعطفات التي شهدتها. يتضح هذا فور أن نتذكر أن تحرير العقل والمخيلة من سطوة روايات وأساطير ومفاهيم المستعمر الصهيوني وسماسرته تقع في مقدمة أولويات الكاتب والشاعر والروائي والفنان العربي، وبمختلف الوسائط سواء كانت الكلمة أو الصورة أو الأغنية أو القطعة الموسيقية.
ولم نكن بحاجة إلى التنبيه على هذه الأولوية، فلسطينياً بخاصة وعربياً بعامة، لولا ما شهده النص الأدبي والفني على مدار السنوات الماضية من تغيّرات، يمكن أن نلخّصها بثلاثة عناصر؛ الأول اضمحلال تجربة اللاجئ الفلسطيني الإنسانية التي هي جوهر موضوع الصراع مع المستعمر الصهيوني من الأعمال الفنية والروائية والشعرية والتشكيلية بدءاً من ستينيات القرن الماضي وصولاً إلى الزمن الراهن، والثاني تشظي الذاكرة والهوية الجمعية بحيث لم يعد مدارُهما وطن واحد اسمه الوطن العربي أو فلسطين، بل أمكنة متفرقة شبيهة بكانتونات ومعازل، هي الضفة الغربية مرة وغزة مرة أخرى على الصعيد الفلسطيني، وهي شرق أوسط أو أدنى على الصعيد العربي، والثالث تغلغل مفاهيم فكرية مصدرها خطاب العدو المستعمر الذي منح نفسه هوية "شعب" أو "آخر" أو حتى "جار" له حق في أرضنا الفلسطينية، بل وفي كل أرض عربية يمكن أن يستولي عليها بالقوة أو بالتهديد.
معنى هذه العناصر الثلاثة أن نكبة أخطر من نكبة تشريد شعب عن أرضه واستعمارها حلّت وتحلّ بوعينا ومخيلتنا، فينسرب استعمار الجغرافيا ويتحوّل إلى استعمار للعقل أيضاً، ومثلما يقيم العدو مستعمرات على الأرض، نجد ما يناظر ذلك في مستعمرات تقام في العقول، وهي أخطر بكثير، لأنها من صناعة الذات هذه المرة حين تفقد بوصلتها ومعناها في صراع وجودي مثل هذا الذي تعيشه مع الشعب الفلسطيني أمة مترامية الأطراف.
بهذا النوع من المستعمرات يتخلق واقع جديد، يصبح فيه تحرير العقل أولوية تسبق حتى تحرير الأرض. والوسيلة هي ذاتها، تلك لم تتغير على مر العصور؛ أي الثقافة بأوسع معنى، بالمعنى الأدبي والفني والعلمي. ومادة أي ثقافة هي تجربة إنسان هذه الأرض المعرّضة لشتى أنواع الاستعمار والانتهاك أينما التفتنا.
ولعل البحث مجدداً في معنى التجربة في الأدب والفن والفكر على الصعيد العربي، وفي ضوء حاجات المجتمعات العربية، يمكن أن نخرج منه بإضاءات هادية نحتاجها في معركة تحرير الوعي والمخيلة، وتدمير ما استقر في الأدمغة من مستعمرات للعدو. على رأس هذه الإضاءات إعادة الاعتبار لمفهوم المقاومة على شتى الأصعدة، على صعيد القيم والمواضعات والتقاليد، وعلى صعيد تخليص الخطاب العربي، الأدبي والفلسفي والاجتماعي، من رطانة أورثتنا إياها تيارات فكرية من شتى الجهات، والاقتراب من قول ما نفكّر فيه ببساطة وعمق من دون تعالٍ على خلق الله، وبهدف لا نحيد عنه وهو التحرّر المادي والمعنوي.
إن تحويل الثقافة إلى أداة مقاومة يعني في أبسط معانيه مواجهة التضليل والخداع الأيديولوجي، واشتقاق مسار حياة إنسانية جديرة بالإنسان وكرامته وحريته، ووطنه بالطبع.