28 يناير 2024
ذبابة في الفنجان
لم يزل ثأري قائماً مع "قهوجي" قسم التحقيق في مديرية أمن الدولة، الذي صفعني في ممر غرف التحقيق، وهو يحمل فنجان القهوة إلى أحد المحققين المرهقين من أعباء العمل اليومي.
كانت صفعة مدوية، لم أتوقعها أبداً، وخصوصاً أنه كان يدندن بمطلع أغنية "الأطلال" لأم كلثوم: "يا فؤادي، لا تسل أين الهوى"، بصوت مرتفع، مشيعاً طقساً من الرومانسية العذبة في أتون الأجواء المشبعة بالقلق والرعب، كما أضفَتْ قامته القصيرة، وشعره اللامع الذي تنسلُّ منه بقايا قطرات زيت الزيتون، أجواءً من الدعابة على يوم "الحشر الأصغر"، ذاك، حين كان الموقوفون ينتظرون فتح ملفاتهم، فإما إلى الزنزانة أو إلى باب الخروج.
والغريب في أمر هذا "القهوجي" أنه فعل بي ما فعل من دون أن يتوقف عن الغناء، بل من دون حتى أن تهتز "صينية" القهوة في يده، بل واصل تحسّره على "الأطلال"، ومضى في طريقه إلى غرفة المحقق.
صحيح أن ذلك النهار كلّه بدأ بمشاعر الحنق، منذ اللحظة التي شاركت فيها بمظاهرة احتجاجية، مروراً بالهراوات التي تلقيتها على جسدي كله، وليس انتهاءً بوضع الأصفاد في يدي واقتيادي مخفوراً، مع سيل الشتائم الوقحة والصفعات والركلات التي اغتسلت بها طوال الطريق إلى مبنى "أمن الدولة"، غير أن الحنق الذي ضغط على عنقي كحبل المشنقة، جرّاء صفعة القهوجي، كان يضاهي حصيلة ما اختزنه قلبي طوال حياتي من بغض للدولة وأجهزتها الاستبدادية. فأن يصفعك شخص من دون سبب، ومن دون أن يعرف تهمتك أو سبب وجودك في هذا المبنى، متجاوزاً حدود فنجان القهوة الذي أدمن على حمله، والتنقل به بين ردهات المبنى وغرف المحققين، فذلك يعني أنه مجبول على العدوانية، واحتقار البشر، والتلذّذ بتعذيبهم، إرضاءً لنزعة سادية متأصّلة في عروقه، خصوصاً إذا واتته فرصة إطلاق نزعاته الشريرة في مبنى كهذا.
عموماً، حين حلّ وقت حسابي، ودخلت إلى غرفة المحقق، كنت فاقداً إحساسي بالعالم الخارجي تماماً، ولم يستوقفني في غرفته وشتائمه غير فنجان القهوة الموضوع على طاولته، إذ تعلّقت عيناي به، متخيّلاً أن ذلك الرجل القزم سيخرج منه بعد قليل، ليعاود صفعي مجدداً، إلى الحد الذي لم أشعر معه بصفعة المحقق نفسها، وهي تنهال على خدي، ليخرجني من ذهولي العميق، والإجابة عن سؤاله المتمحور حول "علاقتي بالتنظيمات السرية"، وسبب مشاركتي في مظاهرة الصباح.
كانت غصة المرارة تكوي حلقي الجاف، حين أمر المحقق بالإفراج عني، مكتفياً بحصتي من الهراوات والشتائم التي تناولتها ذلك اليوم "على الريق"، غير أن شعوراً غريباً داهمني، وجعلني أحس بأنني لم أخرج من ذلك المبنى أبداً، بل انتابني خاطر بأنني مجرد ذبابة سقطت في فنجان قهوة، وتكافح للخلاص من دون جدوى، حتى إني لم أشعر بجموع المهنئين الذين كانوا يتوافدون إلى البيت، وينهالون عليّ عناقاً وتقبيلاً، ورحت أتساءل عن "السلامة" التي حاولوا إقناعي بحصولي عليها لمجرد الخروج من ذلك المبنى "الفنجان".
مرت سنوات طويلة على تلك الحادثة، وانفضّت جموع المهنئين والمباركين، ونسيت أيام الهراوات والتعذيب والشتائم وغرف المحققين، لكن الشيء الوحيد الذي أبى الانعتاق من ذاكرتي هو ذلك "القهوجي" الذي صفعني من دون سبب، لأنه أورثني عقدة الذبابة والفنجان طوال حياتي، ولازمتني حتى في ذروة إحساسي بأهميتي في حياتي اللاحقة. ولا أدري كيف استحوذ عليّ شعور، جعلني أتشكك بكل من حولي، وأتخيّل فيهم مشاريع جلادين، لو أتيحت لهم فرصة الاستقواء بجهاز من أجهزة الدولة، ولم ينج من مصيدة إحساسي، ولا حتى عامل القمامة الذي أراه يومياً في الحيّ الذي أقطنه. كنت أتخيّله سيخرج من حاوية القمامة ليصفعني، وأرى "المكوجي" سيخرج من المكوى ليصفعني، والحلاق والبقال وغيرهم. وبلا وعي، كنت ألجأ إلى حماية خدي بيدي، كلما صادفت أحداً منهم.
وها أنا لم أزل أجاهد للخروج من الفنجان.
والغريب في أمر هذا "القهوجي" أنه فعل بي ما فعل من دون أن يتوقف عن الغناء، بل من دون حتى أن تهتز "صينية" القهوة في يده، بل واصل تحسّره على "الأطلال"، ومضى في طريقه إلى غرفة المحقق.
صحيح أن ذلك النهار كلّه بدأ بمشاعر الحنق، منذ اللحظة التي شاركت فيها بمظاهرة احتجاجية، مروراً بالهراوات التي تلقيتها على جسدي كله، وليس انتهاءً بوضع الأصفاد في يدي واقتيادي مخفوراً، مع سيل الشتائم الوقحة والصفعات والركلات التي اغتسلت بها طوال الطريق إلى مبنى "أمن الدولة"، غير أن الحنق الذي ضغط على عنقي كحبل المشنقة، جرّاء صفعة القهوجي، كان يضاهي حصيلة ما اختزنه قلبي طوال حياتي من بغض للدولة وأجهزتها الاستبدادية. فأن يصفعك شخص من دون سبب، ومن دون أن يعرف تهمتك أو سبب وجودك في هذا المبنى، متجاوزاً حدود فنجان القهوة الذي أدمن على حمله، والتنقل به بين ردهات المبنى وغرف المحققين، فذلك يعني أنه مجبول على العدوانية، واحتقار البشر، والتلذّذ بتعذيبهم، إرضاءً لنزعة سادية متأصّلة في عروقه، خصوصاً إذا واتته فرصة إطلاق نزعاته الشريرة في مبنى كهذا.
عموماً، حين حلّ وقت حسابي، ودخلت إلى غرفة المحقق، كنت فاقداً إحساسي بالعالم الخارجي تماماً، ولم يستوقفني في غرفته وشتائمه غير فنجان القهوة الموضوع على طاولته، إذ تعلّقت عيناي به، متخيّلاً أن ذلك الرجل القزم سيخرج منه بعد قليل، ليعاود صفعي مجدداً، إلى الحد الذي لم أشعر معه بصفعة المحقق نفسها، وهي تنهال على خدي، ليخرجني من ذهولي العميق، والإجابة عن سؤاله المتمحور حول "علاقتي بالتنظيمات السرية"، وسبب مشاركتي في مظاهرة الصباح.
كانت غصة المرارة تكوي حلقي الجاف، حين أمر المحقق بالإفراج عني، مكتفياً بحصتي من الهراوات والشتائم التي تناولتها ذلك اليوم "على الريق"، غير أن شعوراً غريباً داهمني، وجعلني أحس بأنني لم أخرج من ذلك المبنى أبداً، بل انتابني خاطر بأنني مجرد ذبابة سقطت في فنجان قهوة، وتكافح للخلاص من دون جدوى، حتى إني لم أشعر بجموع المهنئين الذين كانوا يتوافدون إلى البيت، وينهالون عليّ عناقاً وتقبيلاً، ورحت أتساءل عن "السلامة" التي حاولوا إقناعي بحصولي عليها لمجرد الخروج من ذلك المبنى "الفنجان".
مرت سنوات طويلة على تلك الحادثة، وانفضّت جموع المهنئين والمباركين، ونسيت أيام الهراوات والتعذيب والشتائم وغرف المحققين، لكن الشيء الوحيد الذي أبى الانعتاق من ذاكرتي هو ذلك "القهوجي" الذي صفعني من دون سبب، لأنه أورثني عقدة الذبابة والفنجان طوال حياتي، ولازمتني حتى في ذروة إحساسي بأهميتي في حياتي اللاحقة. ولا أدري كيف استحوذ عليّ شعور، جعلني أتشكك بكل من حولي، وأتخيّل فيهم مشاريع جلادين، لو أتيحت لهم فرصة الاستقواء بجهاز من أجهزة الدولة، ولم ينج من مصيدة إحساسي، ولا حتى عامل القمامة الذي أراه يومياً في الحيّ الذي أقطنه. كنت أتخيّله سيخرج من حاوية القمامة ليصفعني، وأرى "المكوجي" سيخرج من المكوى ليصفعني، والحلاق والبقال وغيرهم. وبلا وعي، كنت ألجأ إلى حماية خدي بيدي، كلما صادفت أحداً منهم.
وها أنا لم أزل أجاهد للخروج من الفنجان.