ينبش التونسي سامي التليلي في ذاكرة والدته، بحثا عن جواب واحد على سؤال واحد: لماذا تغيب الوالدة عن المباريات كلّها الخاصة بكرة القدم، خصوصا تلك التي يشارك فيها المنتخب التونسي؟ لكن نبشا كهذا ـ الذي يُشبه الحفر عميقا لكشف مخبّأ، أو بعض المخبّأ على الأقلّ ـ لن يتقوقع في سؤال عائلي بحت، ولن يبقى أسير علاقة ابن بأمّه، ولن يوثِّق خبريات وانفعالات تتعلّق بهذا السؤال، وبما يُنتجه السؤال من جواب أو أكثر. فالسؤال يكشف سريعا عن الفضاء المنوي التوغّل فيه، وعن الذاكرة التي يُراد ولوجها.
ذلك أنّ "على العارضة" (إنتاج تونسي فرنسي، 2019، 97 د.) ـ المشارك في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ الذي يستعير عنوانه من ركلةٍ تونسية غير موفّقة (إذْ تُصيب الكرة عارضة مرمى الفريق الخصم في لحظة حرجة)، مهموم باستعادة تاريخ يتداخل فيه الرياضي بالنقابي والسياسي، في مرحلة مرتبكة من التاريخ الحديث لتونس. والفيلم، إذْ يوهم بانشغاله في الرياضيّ، ينفتح سريعا على النقابي والسياسي، في الربع الأخير من سبعينيات القرن الـ20. والشهادات الكثيرة، التي يُضمِّنها التليلي في وثائقيّه هذا، تكشف مفاصل أساسية في الصراع الحاد بين "الاتحاد العام التونسي للشغل" وسلطة الحبيب بورقيبة، تزامنا مع وصول المنتخب التونسي في كرة القدم إلى مباريات كأس العالم، في دورة عام 1978 (المكسيك).
وإذْ تبدو كثرة الشهادات، التي يقولها نقابيون وصحافيون ورياضيون وباحثون وسياسيون وأزلام السلطة، كأنها تنحو بالفيلم إلى النمط التلفزيوني (الريبورتاج)، إلاّ أنّ وفرتها، بما تتضمّنه من اعترافاتٍ وأقوال (وإنْ يشوب بعضها السياسي البحت غموض أو التباسات، فالسياسيون ـ عامة ـ غير معنيين بكشف الحقائق كلّها، باستثناء ما يستفيدون هم به من كشفٍ كهذا)، تمنح "على العارضة" زخما معرفيا لتشكيل صورة عملية عن أحداثٍ مربكة لتونس وللتونسيين، في لحظات تصنع تغييرا كبيرا في البلد ومساراته، وفي العلاقة بين الاجتماع والنظام، وفي التفكير والعمل أيضا. ومع أنّ كثرة المشاركين في تلك الشهادات ـ التي تمزج غالبيتُها الشخصيَّ بالعام، وبعضها ذاتيّ أكثر من غيره ـ "تُسيء" (ربما) إلى حيوية السينما الوثائقية الحديثة، أو على الأقلّ تبتعد عن المفهوم الراهن لصناعة سينمائية وثائقية، إلاّ أنّ المُشاهدة تؤكّد، لقطة تلو أخرى، أهمية كثرة الشخصيات، ووفرة كلامهم ومعطياتهم وتحليلاتهم، فالكثرة والوفرة تنصبّان على تعرية تلك المرحلة، وفيها دم وصدام عنيف بين متظاهرين وسلطة قامعة (الإضراب العام في 26 يناير/كانون الثاني 1978)، علما أنّ مشاركين في الفيلم يشيرون إلى أنّ "28 يناير" (أي بعد يومين اثنين فقط) يُعتَبر "بداية أفول البورقيبيّة".
في مناخٍ ضاغطٍ كهذا، يحافظ سامي التليلي على خط درامي واحد، متماسك في بنيته السردية. فالذاتيّ فيه منطلَق لاستعادة محطات من أحد أعنف فصول التاريخ التونسي اللاحق للاستقلال (20 مارس/آذار 1956). والحميميّ فيه منفتح على كشف دقيق وهادئ لصراعات قائمة حينها، ما يُنبِّه إلى قوة العمل النقابي التونسي، والتداخل المعقَّد بينه وبين السلطة الحاكمة وأجنحتها المتصارعة في الخفاء أو العلن. مع هذا، يعود سامي التليلي إلى والدته، الناشطة والمناضلة في ذاك الزمن، متبادلا معها كلاما وتساؤلات، وعارضا أمامها لقطات من تلك المباريات، "التاريخية" بالنسبة إلى التونسيين.
يصعب اختزال الشهادات. مضامينها جزء من إعادة تركيب وقائع وحقائق. التوليف (مالك شطا) أساسي في لعبة التوازنات بين الشهادات والتسجيلات الأرشيفية والمعلومات والتفاصيل. للموسيقي (عمر علولو) دور سينمائي لن يتجاوز مهمّته في تخفيف بعض الضغط، أو في تأجيج انفعال أو تنبّه. اختيار تسجيلات عن إضراب 17 يناير/كانون الثاني 2019، لافتتاح "على العارضة"، منسجم مع النواة الجوهرية للنصّ الوثائقي (سيناريو سامي التليلي، مع مشاركة في الكتابة لماقالي نقروني)، ومدخل بصري إلى ذاكرة بلد وناس البلد.