ذات يوم بالغ البرودة

22 يناير 2018

(محمد نصرالله)

+ الخط -
صباحٌ بارد يهطل فيه المطر بغزارة، وتتكاثر الغيوم، ويعم الضباب الآسر الجميل. يمر بشكل عادي جدا في أوروبا، ولا يرتب ارتباكا من أي نوع. ما زالت الثياب معلقةً بدون ترتيب، لم تجف تماما على المنشر المنصوب في الشرفة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها مترين، غير أنها تكتظ في الصباحات بالحمائم الهاربة من برد المربعانية الذي يقص العظم، باحثة عن فتافيت الخبز، تتركه السيدة في اتفاق ضمني غير مشروط مع تلك الحمائم قليلة التهذيب التي تتصرف بكامل حريتها، كما لو أنها تساهم في دفع إيجار الشقة التي تزين جدرانها أعمال فنية جميلة، لا تتناسب وتواضع الشقة الصغيرة.
أحكمت إغلاق النوافذ التي اهتزت بقوة بفعل الرياح، وقد أفادت دائرة الأرصاد الجوية بأن الرياح العاتية اجتاحت المنطقة، وسجلت درجاتٍ عالية جدا غير مسبوقة في تاريخ المملكة. تحاول إشعال المدفأة، لتكتشف حانقةً أن جرة الغاز قد نفدت، والسولار لفظ أنفاسه الأخيرة. لم يحل المعطف الثقيل من اختراق البرد عظمها. كانت محطة رؤيا تبث النشرة الجوية، وتقارير متتالية عن حالة الطرق، وتتحدث عن انهيار في شارعين رئيسين في العاصمة، وتكرّر تحذيرات الجهات المختصة من مغبة الخروج إلا للضرورة القصوى. جاء المنخفض الجوي في توقيت عبقري، ليريح الحكومة من ردود الفعل الساخطة على وجبة ارتفاع الأسعار التي أقرّتها، وطاولت كل شيء تقريبا. وقد اشتعلت مواقع التواصل بردود الفعل الغاضبة والنكات الساخرة التي تعبر عن حالة إحباطٍ قصوى، كان أكثرها ذكاء قوائم البضائع التي لم يطاولها الارتفاع، وهي مجموعة من الأعشاب تنبت في الجبال، وتتغذّى عليها البهائم. انهمك الناس في تأمين مستلزمات المنخفض، قالت مصادر حكومية إن الأردنيين ابتاعوا ستة عشر مليون رغيف في يوم واحد، وحرصوا على تأمين المحروقات. ورصدت كاميرات نشطاء مواطنين يعبئون زجاجات البيبسي بالكاز، بما لا تتجاوز قيمته خمسة وسبعين قرشا فقط، في محاولةٍ يائسة لبث الدفء في أجساد الصغار.
تمكن الأكثر حظا من ابتياع أغذية وحلويات تتفنن ربات بيوتٍ مقبلاتٌ على الحياة في إعدادها، ما يساعد في تخفيف حدة الخلافات الزوجية، ويحظى الصغار، الخائبون من عدم استمرار سقوط الثلج، بهامش حرية أكبر جراء الفوضى التي يُحدثها المنخفض في العادة. يكتب وزير التربية، عمر الرزاز، تغريدةً رشيقةً، يواسي طلبة التوجيهي، بسبب ذوبان الثلج سريعا، ويبشّرهم بأن الامتحانات في موعدها، متأملا أن يبرز من بينهم، يوما ما، عالمٌ نابغةٌ عبقري. يحل مشكلة الاحتباس الحراري.
تنظر السيدة بغضب كثير إلى الأطباق المتراكمة فوق حوض المجلى، يواسيها أنها ليست ملزمة بغسل الصحون، إلا عندما يحلو لها ذلك. في واقع الأمر، لا يحلو لها ذلك أبدا، لكنها تفعل ذلك مضطرة. في نهاية الأمر، يخفف عنها أنها قد تُمضي أياما طويلة من دون أن تطبخ. أحيانا من دون أن تُصاب بحمى الطهي، فتقضي أياما متتالية، وهي تعد أطباقا شهية، تعرضها بزهوٍ كثير على صفحتها في "فيسبوك"، غير أنها تتراجع، مبديةً الأسف غير الجاد تماما، بل على طريقة الحكومة الصهيونية التي وصلنا معها إلى تفاهم، حيث أبدت الأسف على مقتل أردنيين بنيرانها، فيبتهج الشارع الأردني بهذا النصر المحقق.
تعتذر صاحبتنا، في صفحتها الحافلة بالأطباق الدسمة، حين تعلن الحكومة عن رفع الأسعار الغاشم الذي قضى على آمال المواطنين بانفراج قريب. وتعد السيدة متابعيها من الأصدقاء أن تقدم لهم وصفة حساء الحجارة، مطهوةً في قدر من الوجع، نقلبه طويلا على نار الصبر. يعلق أحد الأصدقاء: مضافا إليها ملح المعاناة! تصل أخيرا سيارة توزيع الغاز، تنطلق من مكبر صوت، مثبت على سقفها، ألحان موسيقية عذبة. تخلف أقدام العامل الوافد المبتلة ثيابه آثارا من الوحل على الأرض، وهو يبدل الجرّة المثبتة على كتفه. تنقده السيدة إكرامية سخيةً، اعتذارا منها على قسوة الحياة التي تصبح أكثر رأفة، حال انبعاث الدفء في الحجرة، ويتسلل إلى أوصالها المرتعدة، فتحس بالأمان، وتتناول قهوتها على مهل، غير أن ذهنها، المنكوب بالشفقة المتورّط بأوجاع الآخرين، يظل مشغولا بأولئك المحرومين ممن خذلهم زمانهم البارد، وخلفهم في عراء الحاجة والذل.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.