حدثت في السنوات الأخيرة تغيراتٌ كبيرة على جانبي العرض والطلب في أسواق النفط الخام. وهذه التغيرات يجب أن يأخذها المحللون بالاعتبار، وذلك لأنها ستبقى معنا فترة طويلة، يقدّرها خبراء أنها ستمتد حتى عام 2035.
على جانب الطلب، صار واضحاً أن أكثر دولتين تؤثران على الطلب وأسعار النفط هما الصين أولاً والهند ثانياً. ومنذ عام 2008، بلغ معدل الزيادة السنوية في الطلب على النفط في الصين 5.5%، بينما بلغ في الهند 5.1%. وبالمقارنة فإن الزيادة السنوية في الطلب على النفط داخل الولايات المتحدة بلغت 0.5% منذ عام 2008.
ومن ناحية أخرى، يبلغ الاستهلاك اليومي في الصين للنفط حوالي 13.5 مليون برميل، تستورد الصين أكثر من 70% من مجموعه، بينما يبلغ الطلب اليومي في الهند حوالي 5.5 ملايين برميل تستورد الهند 80% منه. أي أن الهند والصين تستوردان يومياً ما يقارب 15 مليون برميل، أو خُمس النفط المصدّر.
ولكن ما إن نصل إلى عام 2030، تكون هاتان الدولتان مستوردتين حوالي 30% من النفط الخام عالمياً، وسوف تتركّز الزيادة في الطلب أكثر وأكثر في الهند التي ما يزال الاستهلاك النفطي فيها محدوداً نسبياً، وقابلاً للزيادة المطلقة، إذا حافظت الهند على زخمها التنموي، وارتفع عدد الأفراد في الطبقة المتوسطة.
ومن ناحية العرض فإن المتغيّر الأساسي الذي حصل هو وصول الولايات المتحدة إلى المنتجة الأولى للنفط الخام في العالم، بسبب التطور الكبير الذي أحدثته تكنولوجيا استخراج النفط الخام من الصخر الزيتي، فقد جعلت كلفة استخراجه منافسةً لمصادر النفط التقليدية. ولذلك، ازداد تأثير الولايات المتحدة على أسواق النفط.
ومن ناحية العرض كذلك، ما يزال تصدير دول كثيرة منتجة للنفط وإنتاجها معطلين، مثل إيران والعراق وسورية، وكذلك فنزويلا. وإذا ما تغيّرت الظروف في هذه الدول، فإن قدرتها على زيادة الإنتاج ستكون كبيرة، وقد يصل مجموع إنتاجها إلى 15 مليون برميل يومياً. وفي المقابل، فإن دولاً أخرى في الخليج مرشّحة لتراجُع إنتاجها النفطي، ولكن بكميات لن تزيد عن 3.0 ملايين برميل يومياً.
ولهذا صار التضافر بين الدول الكبرى المنتجة داخل منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" مع دولة منتجة أخرى مثل روسيا أمراً مهماً جداً.
ويصل إنتاج مجموعة "أوبك" إلى ما يقارب 37 مليون برميل، بينما بلغ 39.8 مليون برميل عام 2017. ولو أضفت إليه إنتاج روسيا حالياً، البالغ حوالي 11 مليون برميل، فإن المجموع سيصل إلى 48 مليون برميل. وهذا رقم مؤثر وكبير جداً على الأسعار في سوق النفط العالمية.
في ظل هذا الوضع، وبفعل هذه العوامل، سوف تتعزّز الازدواجية في أسواق النفط، والتي كتبتُ عنها في "العربي الجديد" في 13 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. وسوف نرى تطورات مذهلة من أجل الحفاظ على التوازنات داخل كل منطقة جغرافية نفطية في القارة الأميركية من ناحية، والقارة الآسيوية من ناحية أخرى.
أما الدول المنتجة في أوروبا، خصوصاً من بحر الشمال، فسوف تتصرّف وحدها، وخصوصاً النرويج. وإنتاج بحر الشمال لا يكفي إلا بصعوبة بالغة لسد حاجات المملكة المتحدة والنرويج، وهما الدولتان المنتجتان الرئيسيتان هنالك.
وسوف نشهد تحالفاتٍ ليست فقط بين المنتجين من ناحية والمستثمرين من ناحية أخرى، ولكن سنرى مشروعات بنىً تحتية، كالأنابيب في مجال الغاز، والتي ستؤثر على الطلب من النفط، خصوصاً في مجال الإنتاج الكهربائي. وسيكون مشروع أنبوب الغاز بين روسيا والصين هو الأهم والأخطر.
وتبرز أخيراً الأهمية الكبرى للغاز في البحر الأبيض المتوسط، وتأثيره على طبيعة العلاقات بين الدول، مثل تركيا وسعيها إلى أن يكون لها نصيب في سواحل سورية وليبيا، وإيران التي تسعى إلى دور مماثل في سورية، عدا عن حقل الغاز المشترك مع قطر وهو حقل الشمال.
وكذلك تبذل إسرائيل مساعي متتالية من أجل تعزيز دورها في غاز البحر المتوسط إنتاجاً وتسويقاً. وقد أثارت المواقع الإلكترونية تساؤلات كثيرة بشأن صفقة الغاز الأردنية الإسرائيلية، وعن هوية الطرف الذي وقّعت معه شركة الكهرباء الأردنية (نيبكو) اتفاق الغاز، بحجة أن هذا الطرف ليس إلا شركة (أوف شور) مسجلة في جزيرة كايمن (Cymen Island).
كل هذه المشروعات قد تؤدي إلى إيجاد تحالفاتٍ نفطيةٍ وغازيةٍ جديدة. ومما يعزّز من قيمة النفط والغاز أنهما مصدر أساسي لتوليد الكهرباء، والتي ستحتاجها دولٌ كثيرة بأسعار معقولة، من أجل تحلية المياه وإعادة تدوير المستخدم منها، وتعزيز منعة البيئة ومكافحة تلوث التربة والهواء.
يجب أن تُضاف إلى كل هذه الاعتبارات حقائق جديدة تزيد الصورة تعقيداً، وهي قيام ألمانيا بجهود كبيرة على كل الصعد للتخلّي عن الطاقة النووية، واستبدالها بالطاقة المتجدّدة.
ولكن هنالك دعوة مضادة، حتى في ألمانيا، تنادي بالتوقف عن تفكيك المفاعلات النووية المولدة للكهرباء، لأنها مصدر طاقة نظيفة، ولأن استخدام الطاقة المتجدّدة، كالشمس والرياح، قد تأخذ وقتاً طويلاً، قبل أن تصبح بديلاً كاملاً لمصادر الطاقة الأخرى.
ومما يؤكّد ضرورة الاحتفاظ بالطاقة النووية أن كلفة تفكيك المفاعلات كبيرة جداً، وتكاد تساوي كلفة بنائها، وإذا عادت الدول إلى فكرة الطاقة النووية، وتبنّتها، فإن صورة الطلب المشترك (joint demand) على مصادر الطاقة في العالم سوف تتغيّر تغييراً جذرياً.
هذه الانقسامات والتشطيرات في أسواق النفط على أساس العرض، والطلب، والجغرافيا، والنوع، ستولّد تحالفات جديدة، وستكون نقطة ارتكاز لهذه المحاور.
ولعل بناء تصوّر لمستقبل النفط العربي، ومصادر الطاقة العربية، قد أصبح حالةً ضروريةً لا تقبل التأجيل، ويجب أن تسمو فوق الخلافات بين الدول.