ديمقراطية العرب المخطوفة

21 نوفمبر 2017
+ الخط -
شهد الاجتماع العربي، منذ سبع سنوات، حالة حراك احتجاجي، جماهيري، عبّرت عن عمق الاحتقان الاجتماعي الذي كان يسود بعض البلدان العربية، وأخبرت بفشل النّموذج التّنموي التقليدي والخيار السّياسي الأحادي الذي انتهجته بعض الأقطار بعد الاستقلال، حتّى ظهرت عاجزةً عن إقامة دولة تقدّمية عادلة، وعن إدارة الشّأن العامّ على نحوٍ يضمن توفير الحقوق وحماية الواجبات، فكان أن انتفض النّاس في حركةٍ تغييريةٍ، رامت مزيدا من الحرّية والعدالة وضمان العيش الكريم والتنمية الشاملة. وكان المأمول أن تُزهر حركة الربيع العربي واقعا جديدا، ينتقل بالناس من عصر الدولة الشمولية إلى زمن الدولة الديمقراطية، وتكون انطلاقةً للقيام بإصلاحات جذريّة في مختلف المجالات الحيويّة التي عليها قوام الدّولة، وفي مقدّمتها القضاء والإعلام والاقتصاد. لكن المشهود، بعد سنوات من الحراك الاحتجاجي، أنّ مسارات الربيع العربي قد تباينت من بلد إلى آخر، وتعدّدت عثراته والتحديات التي تواجهه، ولم يتمّ تحويل جلّ شعاراته الواعدة إلى واقع يحياه الناس. فمع أهمّية ما تحقّق في مستوى توسيع مجال الحرّيات العامّة والخاصّة، وإشراك المواطن في الشّأن العامّ، والانتقال من الأحاديّة إلى التعدّديّة، فإنّ مراحل ما بعد الثورة ظلّت مرتبكةً، وأنتجت حالاتٍ عمرانيةً متباينةً في السياق العربي.
لئن نجحت تونس نسبيا في مأسسة نظام ديمقراطي، فإنّها مازالت تواجه صعوباتٍ اقتصاديةً وتحدّياتٍ أمنية جمّة، ولم تتمكّن بعد من استكمال مسار العدالة الانتقالية، وتحويل محامل الدستور إلى واقع يعيشه المواطنون. بل إنّ البلاد ما فتئت تواجه شبح عودة الحكم الفردي والارتكاس نحو الدّولة البوليسية. أمّا في بقية بلدان الربيع العربي، فانحسرت الثورة، وتمّ إجهاض وثبة الشعوب نحو الدّمقرطة، ففي سورية واجه النظام الحاكم الربيع الاحتجاجي السلمي بالرّصاص، وتعامل بقوّة غير مسبوقة مع شوق النّاس إلى التطوير والتغيير، واستعان بقوى أجنبية لكتم أصوات المعارضين، فانفرط عقد البلد، وأصبح ساحةً للصراع بين أطراف إقليمية ودولية. وفي مصر، تمّ الإجهاز بقوّة العسكر على أوّل نظام ديمقراطي في تاريخ البلاد، والانقلاب على أوّل رئيس منتخب، وتوزيع آلاف المواطنين بين السجون والمقاصل والمنافي، فقط لأنّهم عارضوا النظام. وفي اليمن، نجحت الثورة المضادّة وقوى أجنبية في وأد الحلم
الديمقراطي، وفي زّج البلاد في أتون حرب طائفية مدمّرة، أهلكت الحجر والبشر، وأعادت إلى الصورة مشروع التقسيم القديم والارتهان إلى الأجنبي. أمّا في ليبيا، فتعطّل مسار الانتقال نحو الديمقراطية، ولم يتوصّل الفرقاء بعد إلى بلورة دستور مدني جامع، وجرى إبداع ما تسمّى "عملية الكرامة" التي أجّجت النزاع المسلّح على السلطة، وأدّت إلى إحياء النزعات القبلية، وتقسيم ليبيا قسمين، شرقي وغربي، وإلى تصعيد جنرال قديم يروم استعادة النموذج العسكري في إدارة البلد، ولا يولي كبير اهتمام لأولويات الوحدة الوطنية والدّمقرطة.
ومن ثمّة ارتدّت بعض الشعوب العربية عمليّا إلى مرحلة ما قبل الدولة، نتيجة صعود المليشيات والاستقواء بالأجنبي على نحوٍ أنذر بتفكيك الدولة والمجتمع، وبتهديد الوحدة السيادية والترابية لبعض البلدان العربية. والثابت واقعيا أنّه تمّ حرف نضالات الشعوب العربية عن مساراتها المتّجهة نحو الحرّية والدّمقرطة، والتعدّدية والعدالة والتنمية المستدامة، والتعايش والتداول السلمي على السلطة، وجرى تحويلها إلى صراعاتٍ داخليةٍ ونزاعاتٍ فئوية ضيّقة. فصعدت المطلبية القطاعية والعصبيات الأيديولوجية والنعرات الطائفية، والحروب الأهلية، وتراجع الأفق القيمي والمنجز العملي للثورة، وتحوّل الاحتجاج، على التدريج، إلى فرصةٍ لإحداث الفوضى وتعطيل المرافق العامّة، وملأ رجال النظام القديم مساحة التعبير المتاحة بعد الثورة، فاستولوا بقوّة المال على منابر الإعلام ووسائل تشكيل الوعي الجمعي، وانخرطوا في إعادة إنتاج المنظومة القديمة عبر تبييض رموز الدكتاتورية وشيطنة الديمقراطية، وتيئيس النّاس من الثورة، فأصبح زين العابدين بن علي في نظرهم مأسوفا عليه، وغدا علي عبد الله صالح جزءا من الحلّ لا من المشكل، وأمسى بقدرة قادر حسني مبارك بريئا، ومعمر القذّافي رحيما، وبشار الأسد ضرورة.
يمكن القول، ختاما، إنّ أطرافا عديدة في الدّاخل والخارج كانت، وما فتئت، تبذل جهودا حثيثة لخطف أيّ بادرة ديمقراطية في السياق العربي، عبر تعطيلها أو تحجيمها أو تأجيلها أو وأدها في المهد، وتحشد في سبيل ذلك العدد والعُدّة والمال والإعلام والسلاح، لأنّها تعتقد أنّ قيام نظام ديمقراطي سيهدّد مصالحها وسيؤدّي إلى ترتيب علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم، وإلى توزيع عادل للثروة والسلطة، وسيُفضي إلى تكريس الشفافية والمحاسبة الفعلية للفاسدين والطغاة. والواقع أن تفويت الفرصة الديمقراطية على العرب سيزيد من تأزيم المشهد العمراني العربي، وسيُطيل أمد بقاء العرب خارج دوائر التحديث السياسي. وسيؤدّي إلى إنتاج مزيد من المحبطين واليائسين والرجعيين والمتطرّفين الذين سيّمثّلون خطرا على الجميع في الداخل والخارج، لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.