ديمقراطية الجزائر المؤجلة

15 مايو 2017
+ الخط -
في كل انتخاباتٍ تنعقد في الجزائر يتم استحضار سؤال الديمقراطية بإلحاح. الديمقراطية التي بني لها الديكور بكيفية احترافية، من دستور تعدّدي، ومواعيد انتخابية محدّدة، وانتخابات دورية، وغير ذلك من قطع الأثاث الديمقراطي. في مقابل غفلة مهندسيها عن دمقرطة أرواح النخب المسنّة التي تعرّف السلطوية باعتبارها مصلحة وطنية، والديمقراطية خطوة أولى نحو التدخل الأجنبي. لا تريد النخب الكلاسيكية في الجزائر الديمقراطية التي تُحدث تداولا في السلطة، وإنما تحبذ تلك الممارسة المتحكّم فيها، والتي تُبقي القوي قويا، والضعيف ضعيفا، والتي تجعل قوى المعارضة مكبّلة إداريا وسياسيا.
تعيش النخبة الحاكمة في الجزائر انفصاماً سياسياً يحتاج إلى أن يدرس، حيث أنها أجهضت ديمقراطية التسعينيات، لكي تخيط واحدةً على مقاسها. الحفاظ على شكل الديمقراطية من دون التفريط في مقاليد الحكم لنخبة جديدة، لتكون بهذا مصلحة الجمهورية في بقاء الوضع الراهن، واستمرار من يحكمون في السلطة، وإيجاد ما هو مناسبٌ لإعادة إنتاج أنفسهم، تأقلما مع ما تفرضه البيئتان الداخلية والخارجية. إذ أنه ليس عجيبا أن يظهر الأمين العام للحزب الحاكم قائلا "جبهة التحرير هي الدولة". وليس هناك ما هو أفصح مما قاله تستطيع أن تصف به حال الممارسة السياسية في الجزائر المعاصرة.
في وقتٍ مضى، كان ممكنا تفسير تعثر الديمقراطية في الجزائر بسطوة المؤسسة العسكرية، وتشابك العلاقات المدنية العسكرية. وتحول هذا الحكم إلى ما يشبه النظرية، يتم سحبها على كل الأنظمة الحاكمة في السياقين، العربي والأفريقي. لكن حاليا، لم تعد فرضية العلاقات المدنية العسكرية تصلح، فالنخب العسكرية النافذة، أمثال العربي بلخير ومحمد العماري وخالد نزار، وصولا إلى الجنرال توفيق، لم تعد موجودة على الساحة، بسبب الوفاة أو الإبعاد، والباقون منهم أصبحوا من مناصري الرئيس وداعميه، على الرغم من أنه غريب عن مؤسستهم.

ينبني تفسير التعثر الديمقراطي في الجزائر اليوم على ثلاثة أسس رئيسية. يتعلق الأول بغياب نخب ديمقراطية تسكن النظام، أو حتى خارجه. الثاني، ظهور نمط جديد من العلاقات يمكن أن يطلق عليه العلاقات المدنية- المدنية. الثالث، تراجع المطلب الديمقراطي شعبيا لصالح المطلب التنموي. ويعد تفسير تعثر الديمقراطية بغياب نخب جزائرية ديمقراطية من داخل بيت النظام أو من خارجه التفسير الأقوى، فالنخبة الجزائرية تختلف في أشياء كثيرة، حتى البسيطة منها، لكنها تتفق ضمنيا على أن الديمقراطية الجزائرية لا يجب أن تكون على الأقل في الوقت الراهن. أو يجب التعامل معها بحذر، بإطلاق شعارات التدخل الأجنبي والفوضى والربيع العربي وغير ذلك. ولا تجرؤ نخبة النظام على الخروج عنه، أو حتى رسم خط إصلاحي في داخله بسبب خوفها من الإقصاء. وينجر عن الأمر الأخير حرمان هذه النخبة من المناصب، وكذا المكاسب المادية التي تترتب على أن الفرد جزء من السلطة الحاكمة. أما النخب المعارضة، فسلوكها داخل أحزابها، وكذا تقاربها وبعدها المزاجيين من السلطة، يبين مدى بعدها عن الإيمان بالديمقراطية وسيلة رئيسية لحسم الصراع على السلطة، ومدى ابتعادها عن الشارع العام لصالح التفاوض مع من يحكمون، أو مغازلة الجيش.
فيما يخص العلاقات المدنية- المدنية التي تعد مدخلاً جديداً لفهم تعثر الديمقراطية الجزائرية، فإنها أساسا علاقات ذوي المناصب السلطوية بأصحاب المال والأعمال. ويبدو أن الجمهورية الجزائرية المعاصرة تعيش حالةً من اللبرلة الاقتصادية السلبية، المبنية على زبانيةٍ، واعتماد متبادل يربط النخب الحاكمة بالنخب الاقتصادية النافذة. ينبغي هنا التركيز على الطبيعة الزبانية لهذه العلاقة، حيث لا يحبّذ النظام الجزائري فكرة وجود شركاء وطنيين أقوياء، أو منافسين من ناحية النفوذ. لذا يتم التركيز على رجال المال القابلين أن يتم التحكم فيهم، والذين لا يملكون طموحا سياسيا غير ذلك المرسوم لهم. لهذا، وعند النظر إلى هذا النوع من العلاقات في الجزائر، نكتشف أن عديدين من أصحاب المال الجزائريين هم خارج هذه المعادلة، بسبب مواقفهم المعارضة لطبيعة السوق الذي تسيّره الحكومة، وتختار لاعبيه الأساسيين، أو لأنهم من أصحاب الطموح السياسي الكبير القادر على هز كراسي من هم في السلطة.
تعمل النخب الاقتصادية الجزائرية التي تدخل في حالة تعاقدٍ مع النظام على تغطية العجز التنموي الذي يعاني منه. في مقابل، حصولها على تسهيلاتٍ خيالية، تتعلق بتمكينها داخل السوق الوطني. لكن النتيجة الواقعية لهذا التعاقد، هي أرباح لصالح رجال الأعمال، استمرار النخب الحاكمة وتمكّنها من إعادة إنتاج نفسها، في مقابل معاناة المواطن البسيط. وتقود هذه النتيجة إلى التفسير الثالث، المتعلق بتراجع المطلب الديمقراطي لصالح المطلب التنموي.

على الرغم من أن الأمر غير صحي، إلا أن من المهم الإقرار به. يضع الشارع الجزائري اليوم المطلب التنموي قبل المطلب الديمقراطي بمراحل، خصوصا فئة الشباب الذين يحلمون بفرص عمل، بسكن وبناء عائلة، أكثر من بناء ديمقراطية ليبرالية فعلية. والمتتبع حركة الشارع الجزائري يدرك ذلك بوضوح، والأمثلة في هذا الباب عديدة. وكانت أحداث الزيت والسكر التي جاءت متزامنةً مع الأحداث العربية تعبّر عن قلق تنموي، وشعور دفين بانعدام الأمن الاقتصادي. لم يتقبل المواطن الجزائري فكرة أن يستيقظ على واقع أن الدعم على السلع الغذائية الحيوية لم يعد قائما، وكل الأحداث التي عرفها الجنوب الجزائري كانت مؤسّسةً على فكرة البطالة، والفقر، وغلاء المعيشة، وغير ذلك من التظلمات الاقتصادية.
بمتابعته ديناميكية الشارع الجزائري، لا يجد صاحب هذه السطور غير حدث واحد، عبر بوضوح عن المطلب الديمقراطي، وضرورة التداول على السلطة، وذلك إبان الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، عندما ترشّح الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة رابعة. أما باقي الأحداث فقد عبرت عن مطالب اقتصادية، يعد تحقيقها مستعجلا بغض النظر عن بقاء النخب الحالية أو ذهابها.
المهم من الناحية السياسية أن الأنظمة العربية المعمّرة طويلا انتقلت من دور الفاعل المتلقي والمنفذ للمطالب المجتمعية إلى دور الموجه لها. عمل النظام الجزائري، على مر السنين، على نحت عقلية مطلبية سوسيواقتصادية بامتياز. كما ألغى مفهوم الديمقراطية من القاموس السياسي للشارع الجزائري، وجعلها قضية أمنية من غير المحبذ الاقتراب منها، إلا في الإطار الذي يرسمه ويسمح به، بحيث يصبح سقف المطالب داخل الجزائر بيتاً ووظيفة.
لا تبدو الديمقراطية قريبة جدا في الجزائر، حتى لو ذهب الرئيس بوتفليقة، وذلك لتغلغل جبهة التحرير الوطني في السلم الإداري والبيروقراطي للدولة من جهة، وكذا غزوها القوائم الانتخابية، إضافة الى سردية أنها مدعومة من المؤسسة العسكرية، في مقابل ضعف الأحزاب المنافسة لها. وبين سطوة النظام وهشاشة المعارضة، يضيع المطلب الديمقراطي، وتؤجّل الديمقراطية الحقيقية التي نادت بها النخب المتنوّرة أيام الاستقلال، والتي ضحّى من أجلها جيل الثمانينيات.
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
بلقاسم القطعة

طالب جزائري في معهد الدوحة للدراسات العليا

بلقاسم القطعة