لم يبق من محافظة دير الزور شرق سورية، والتي تعد من كبرى المحافظات السورية، إلّا أحياء معدودة خارج نطاق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بعد مرور خمس سنوات من عمر الثورة السورية. بسط الأخير سيطرته على المناطق التي كانت بحوزة فصائل "الجيش السوري الحر" المعارضة أواسط العام الماضي، ليشنّ في ما بعد حملات متلاحقة للسيطرة على أحياء لا تزال تحت سيطرة النظام، إضافة إلى مطارها إلّا أن كل محاولاته باءت بالفشل.
كانت دير الزور من أولى المحافظات استجابة لنداء الثورة. شهدت في الأشهر الأولى لها واحدة من كبرى تظاهراتها، إذ زحف الآلاف من أهل دير الزور يوم 22 أبريل/نيسان 2011 إلى ميادينها، معلنين نهاية مرحلة كاملة من تاريخ سورية كانت خلالها المحافظة خارج نطاق الاهتمام الحقيقي لنظامَي الأسد (الأب والابن). تكرر المشهد مرة أخرى، خصوصاً بعد بدء سقوط القتلى برصاص قوات النظام. وكان المعارض السوري معاذ الركاض القتيل الأول في ثورة محافظة دير الزور التي يضم باطن أرضها ثروة نفطية هائلة، وظاهرها ثروة زراعية، لم تنعكس إيجاباً على حياة أبنائها. كان ريف دير الزور من أكثر الأرياف السورية فقراً وتهميشاً، ما جعله بيئة طاردة لأولاده الذين توزّعوا في عموم سورية بحثاً عن حياة أفضل.
كما كانت دير الزور قبل تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد للسلطة عام 1970 في قلب المشهد السياسي والثقافي السوري. وكان لعدد من أبنائها دور مهم على جميع الأصعدة، خصوصاً في المؤسسة العسكرية. وأسهمت أسماء عدة في تشكيل وجه سورية المعاصر. لكن نظام الأسد الأب عمل على تهميش دير الزور وتحويلها إلى مجرد داعم لميزانيته. ازدادت وطأة الإقصاء على محافظة دير الزور مع تولي الرئيس السوري بشار الأسد للسلطة عام 2000، والذي تزامن مع سنوات صعبة جداً ضربت سورية وصولاً للعام 2011، إذ بدأت الثورة على نظام الأسد بعد أكثر من أربعين سنة من الصمت على الاستبداد.
"معارضون بالفطرة"، هكذا يصف الكاتب أحمد الرمح أبناء محافظته دير الزور في علاقتهم بالنظام منذ استلام الأسد الأب السلطة حتى توريثها لولده. ويضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "الاحتجاجات الأولى في دير الزور كانت مع استلام الأسد الأب السلطة 1970، لكن التظاهرات الأشد كانت في مارس/آذار 1980، والتي استطاعت بساعات قليلة التوسع في أرجاء البلاد. دفع نظام الأسد بقوات حرس الحدود (الهجانة) وقوات الأمن لتقتحم البلد، وتفتح نيرانها على المدنيين، أدى ذلك إلى إضراب شامل. إلّا أن القوات العسكرية والأمنية نجحت في إنهائه. ونتج عن تلك الانتفاضة اعتقال أكثر من 300 متظاهر تم إعدامهم في 27 يونيو/حزيران 1980، والتي عُرفت بمجزرة تدمر الشهيرة"، وفقاً للكاتب.
ويتابع الرمح حديثه قائلاً "تبع تلك الاعتقالات حملة أخرى طاولت قيادات في جماعة الإخوان المسلمين، وأخرى قومية ويسارية. وصل عدد هؤلاء إلى المئات. لم تبق عائلة في الدير ليس لها معتقل لدى النظام، لتصاب المحافظة بجفاف نخبوي شديد". ويشير الرمح إلى أن دير الزور شهدت بعد ذلك العديد من الاحتجاجات التي قُمعت بقسوة من قبل أجهزة النظام الأمنية عام 1990 على خلفية الحرب التي شُنت على العراق بعد احتلاله الكويت، وعام 2000 إبان ما عُرف بربيع دمشق".
اقرأ أيضاً: الثورة السورية في حلب... حاصر حصارك
بعد ارتفاع وتيرة الثورة في مدينة دير الزور عام 2011، بحسب الكاتب، اقتحم جيش النظام وأجهزته الأمنية المدينة مرتكباً مجازر عدة بحق المدنيين. منتصف العام 2012، اتخذ مجموعة من شباب المدينة قراراً بالسيطرة عليها وطرد النظام منها. وهذا ما تحقق في يونيو/حزيران من ذلك العام. سيطر الجيش السوري الحر على عدد من أحيائها، وبقي النظام محصوراً في أحياء القصور، والجورة غرب المدينة، وحي هرابش (شرق)، فضلاً عن مواقع عسكرية في محيطها أهمها، المطار. لكن قوات النظام دمّرت أحياء كاملة في مدينة دير الزور، حتى أبرز معالمها، وهو جسرها المعلّق على نهر الفرات في مايو/ أيار 2013. وكان جسر دير الزور يربط بين شطرَي المدينة. ويعد من الجسور النادرة في العالم، إذ بناه الفرنسيون في العشرينيات من القرن الماضي إبان وجودهم في سورية، على حد تعبير الرمح.
ويلفت الرمح إلى أنّه منذ ذلك الوقت استطاع "الجيش الحر" السيطرة على مجمل ريف المحافظة، وخصوصاً الريف الشرقي الذي يضم أهم آبار النفط. شهدت المحافظة طيلة عام 2013 حراكاً عسكرياً، فشلت قوات النظام خلاله باستعادة ما خسرته. كما انشغلت فصائل في "الجيش الحر" بآبار النفط والغاز وما تدره من أرباح طائلة، في وقت بدأ "داعش" بقضم جغرافيا المحافظة. استولى التنظيم على كل المناطق التي كانت بحوزة المعارضة المسلحة واحدة تلو أخرى في الريف والمدينة. تغيّر المشهد في محافظة دير الزور جذرياً، فأصبحت تُعرف بـ"ولاية الخير" لدى التنظيم.
وحاول "داعش" السيطرة على ما تبقى من أحياء المدينة والمطار، لكنه فشل في ذلك ليبدأ مطلع عام 2015 محاصرة الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام والتي تضم نحو 200 ألف مدني، ما تسبب بمأساة إنسانية لا تزال تتلاحق فصولها المؤلمة. وفي ذلك الوقت، وفقاً للكاتب، توفي 130 مدنياً، منهم 45 بسبب الحصار، و25 أثناء محاولتهم الهروب من الحصار، و40 أثناء محاولتهم تهريب مواد غذائية للمناطق المحاصرة، و20 شخصاً نتيجة القصف الذي تعرضت له الأحياء المحاصرة. كما خضعت الأحياء الواقعة تحت سيطرة التنظيم، التي تضم نحو 15 ألف مدني، لحصار من قوات النظام، وقصف من قبل الطيران الروسي الذي ارتكب مجازر عدة في المدينة وريفها، وخصوصاً الشرقي منه. ويلفت الرمح إلى أن دير الزور واحدة من 15 منطقة محاصرة في سورية، إلّا أنها الوحيدة المحاصرة من طرفَين.
ويعتبر الصحافي عبدالله عمر أنّ خمس سنوات من عمر الثورة السورية، فقدت خلالها دير الزور الكثير من أهلها قتلاً واعتقالاً وتهجيراً داخل سورية وخارجها. باتوا في المنافي القريبة والبعيدة، وهم يرون "درة الفرات"، كما يحلو لهم تسميتها، وهي تذوي تحت النظام والتنظيم. ويقول عمر إنّ "هذين الأخيرَين نهبا خيرات دير الزور. كما أنّ هناك جيلاً كاملاً من دون تعليم، حالها حال باقي المناطق الثائرة والمحاصرة في سورية، لكن مدينتي لا بواكي لها"، على حدّ تعبيره.
اقرأ أيضاً: أهالي جوبر بذكرى الثورة يزرعون الأشجار على ركام القصف