28 ديسمبر 2021
دول المشاعات وسلطة الملكيات الخاصة
عادة ما تؤسس الحراكات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية وعيا أكبر، تنضجه فعاليات هذه الحراكات، بما يتجاوز ضخ الأحزاب وتنظيماتها منسوب الوعي المراد إيصاله إلى أعضائها؛ ويُلاحظ من واقع الخبرات والتجارب، البعيدة كما القريبة، مدى أهمية هذه المسألة في حركة الأفراد والمجموعات الفاعلة وسط الساحات، وهم يعملون على صياغة برامج كفاحية فضفاضة وواسعة، يمكن الاتفاق على بعضها في النهاية، وإمكانية تحقيقها، وإنْ لم تكن تلبي كامل أهداف الانتفاضة الشعبية، جرّاء عدم توافق أهل السلطة، واتفاقهم على تقديم مجموع التنازلات الضرورية المطلوبة شعبيا للعودة إلى الوضع الطبيعي، الأمر الذي يتطلب سياساتٍ مقنعةً للناس لجهة استعادة حقوقها من دون منّة من أحد، يلمسونها لمس اليد، وإقرار قوانين مواطنة جدّية وحقيقية، تنقذ البلاد من مسارات السوء والنهب والدمار التي لا يدرك بعضهم، خصوصا من أهل السلطة، مدى خطورتها، عبر سعيهم إلى خداع مواطنيهم بتقديم مجرّد تنازلات شكلية لا إصلاحية ولا تغييرية، لا ترقى إلى مستوى الاستجابة لما تتطلبه معطيات الحراك الشعبي الثوري في الحلقة الراهنة، ولا تلبي أي تطلعاتٍ وطموحاتٍ له، باتت اليوم متوجّة بألق استعادة وحدة وطنية شعبية، من الأهمية المطلقة الحفاظ عليها من تمييعات أهل السلطة ومن لف لفهم واختراقاتهم.
ولأن الدولة ملكية عامة لجميع مواطنيها، وهذا هو الأصل في فلسفة وجودها، هل يجوز لمطلق سلطة أن تحوّلها إلى ملكية خاصة لهذا السلطوي أو ذاك، وأن تحتكرها هذه العائلة أو تلك، من سلطويين يعتبرون السلطة مهنتهم "المقدّسة"، أو حين يجري تجييرها لأحزاب طائفية وتكتلات مذهبية، تتحد فيما بينها لتقاسم سلطةٍ تحتل فضاء الدولة، وتحتكر خزينتها العامة وكامل ممتلكاتها، وتهيمن على مقدّراتها وتتصرّف بها كملكية خاصة لها، وتنهب وتسرق أموال الناس وحقوقها، وتجيّرها لمصالحها الخاصة ومصالح الأقارب والأصدقاء ومافيا الزبائنية السياسية والدينية الطائفية والمذهبية، من دون وازع من ضمير، أو خوفٍ ووجلٍ من الانكشاف، ومن دون رقابةٍ أو محاسبةٍ من هيئةٍ منوط بها هذه المهمة؛ كمجلس نيابي منتخب، تخلّى في أحوالٍ
كثيرةٍ عن دوره، جرّاء خلل بنيوي لا يمكن إصلاحه؛ بقدر ما يُراد تغيير كامل المسببات التي أوصلت إلى هذا الخلل، لا سيما في ظل معطياتٍ تغيب فيها كثيرٌ من ملامح منظومة قضائية كاملة، لا دور فيها للقضاة والقانونيين؛ سوى تغطية ارتكابات السياسيين ومن لفّ لفّهم، والتواطؤ معهم، في مسلسلٍ طويلٍ من عملية تسييس القضاء، وطيّ دوره وتتبيعه وربطه بزعامات سياسية، حتى استحال في هذا الوضع ممارسة أي دورٍ نزيهٍ لقضاء مستقل وعادل، يتواكب مع سلطةٍ أو سلطاتٍ لا ثقة بها، تمارس من الارتكابات ما تستحق عليها محاكماتٍ جزائية وتجريمية، وفق الدستور ومبادئ القانون والعدل، لا تتوفر للأسف أدواتها، في ظل سلطةٍ أو مجموعة سلطات، ليست أمينةً على مهامها، ولا تحترم وظائفها المفترض أن تقوم بها إلزاما وفق الدستور والقوانين المرعية الإجراء، لا مزاجا أو انحيازا لمصالح شخصية أو زبائنية خاصة.
المشكلة في لبنان، كما في العراق، أن القادر على التغيير لا يريد وليس من مصلحته الإقدام على ذلك؛ إذ يعتبر أن تقديمه أي إنجاز لحركة الناس خروج عن دوره المرسوم له إقليميا، وانتقاصٌ من هيمنته السلطوية الطائفية والمذهبية، وهيبته السياسية الاستعلائية. لذلك يلجأ إلى القمع والتآمر على حركة الانتفاض الشعبي، في الوقت الذي يتهم فيه هذه الحركة بأنها مرتبطة ومدعومة من الخارج، في عملية إسقاطٍ لما هو عليه من ارتباطاتٍ خارجية بقوى إقليمية، تقيم علاقاتٍ وثيقة من الدعم والإسناد بأدوات قمع سلطوية محلية طائفية ومذهبية، هي بدورها تقوم بوظائف وأدوار خطيرة جدا، على الضد من مصالح شعبها ودولتها وبعض سلطاتها الحاكمة.
تسعى السلطة من تجييش شارعها، وزجّه في مقابل شارع الانتفاض الشعبي، إلى وأد الحراك
الثوري أقساما واسعة من الشعب اللبناني الذي وحدته الأوجاع والآلام التي تسبّبت بها السلطة؛ سلطة الطوائف والمذاهب، كما سلطة رأس المال وسياسات المصرف المركزي والمصارف المرتبطة بتلك السلطة التي تعتبر نفسها العليا القيّمة على أمور شعبٍ ترك وحيدا في مواجهة سياسات الإفقار والتجويع والحرمان ونهب المال العام، عبر صفقاتٍ غير واضحة، لا يستفيد منها الوضع العام في لبنان، بقدر استفادة المعني بالسلطة، وبتجيير كل ما لها لمصالحه الشخصية الخاصة، وهذا هو وضع البلد على الأقل منذ ثلاثين عاما، غابت خلالها الشفافية، ونهبت خزينة الدولة، فيما لم يتحقق للناس أدنى الخدمات الضرورية مدفوعة الثمن مسبقا، والمموّلة من جيوب الفقراء وصغار الكسبة، من بروليتاريا وعمال وفلاحين وموظفين صغار في أدنى السلم الوظيفي، في حين لم تستفد من تلك الخدمات، سوى الطبقات العليا المدعومة من السلطة، والداعمة لها في مسلسل كرٍّ وفرٍّ من زبائنيةٍ مشهود لها، في كل فصول وأصول العمل السياسي ورأسماله السلطوي، وحماته من أوليغارشيي الطوائف ورأسماليي النهب العام وتوظيفاتهم الشخصية، وتبادل منافع تلك التوظيفات مع أبناء وأقارب حماة النظام المتهالك الذي لم يعد قادرا على ستر عوراته إلا بالخضوع لمؤثرات أصحاب النفوذ والقوة، وتجار الهيكل الديني والسياسي وزعرنات شارعهم، وربما في وقتٍ قريبٍ زجّه في مواجهة دامية مع شارع الناس العاديين، الأكثر احتياجا لنصرتهم ونصرة حقوقهم المهدورة، على مذبح انحرافات سلطةٍ لم تعد ترعوي عن جرِّ شعبها إلى مواجهات حربٍ شوارعيةٍ أهلية، وإن تكن مصغرةً محدودة زمنيا ومحدّدة مكانيا.
ليس من الغرابة اليوم في بلادنا أن يخرج السلطويون المتهمون بالفساد، ممن "طلعت رائحتهم" منذ زمن، شاهرين سيوف حربهم على الفساد، ناسين أو متناسين أنهم رأس الحربة المفسدة، وهم الذين راكموا ثرواتهم المنهوبة من خزينة الدولة، ومن أموال الناس، طوال سنوات حكمهم، وتحكمهم برأس مال السلطة، المنسجم والمندمج برأس مال الطوائفيين والمتمذهبين، الأبعد ما يكون عن كل الرأسمال الرمزي للإنسان، بطبيعته الأميل إلى حفظه واحتفاظه بمزايا وأخلاقيات الشرف والكرامة الوطنية.
أما سياسات التتبيع للخارج، والتحشيد الطبقي/ الطائفي والمذهبي، كما في لبنان والعراق، وفي بلدانٍ أخرى، لا تختلف طبيعة السلطة والدولة العميقة فيها وفسادها ونهبها المال العام وطابعها
الريعي غير المنتج، وإنتاج أوليغارشيات مالية ذات سلطات استثنائية متوحشة، تتغوّل أكثر على وقع ما يجري من انتفاضٍ وتمرّد، على هيمنة سلطويي الزعرنة الشوارعية، في احتمائهم خلف مؤسساتٍ دستورية، وإن تكن شرعية، فقد تحولت، مع تحول ملوك السلطة وعروشها ورموزها، إلى مجرد هياكل مفرغة من أي شكل دستوري أو قانوني، يمكن الاعتداد به لتلبية حقوق المواطنين وحاجاتهم واحتياجاتهم الملحّة، اللازمة والضرورية التي تنسجم وقوانين المواطنة وأعرافها، غير المعترف بها للأسف، من سلطويين ما عادوا ذوي صلة بالواقع الذي شوّهوه، ونقلوه من واقعٍ إلى مثالٍ لا مثيل له في عالم السياسة والاجتماع وبنى الدولة الحديثة.
استمرار التحشيد الطوائفي والمذهبي، وفلتان زعران الزعماء وشبّيحتهم، وحتى بعض حرّاس العروش، المحسوبين على المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة ومشاعاتها أو "دولها" الموازية، دفاعا عمن نهبوها ونكبوها، طوال عقود زعماء الحرب الأهلية وعهودها، وهم يكرّرون ذواتهم أو يستنسخون نسخا توريثية منهم وعنهم، ليكرّروا ويكملوا سيرة سرديات فضائح الفساد والإفساد ومسيرتها؛ مثل هذا التحشيد لا يمكنه أن يقدّم أي حل ناجعٍ يساهم في وقف حركة الانتفاض والتمرّد الشعبي الواسع، ضد نظامٍ تجذّر فساده وتبعيته عميقا، في تربة وطنٍ تتلاعب فيه رياح الفاسدين والمفسدين، بالشراكة وبالتكافل والتضامن مع مراكز قوى إقليميةٍ ودولية، تدفع نحو تأمين جزءٍ من كعكة الهيمنة والنفوذ في المنطقة، على حساب شعوب هذه البلاد ومواطني دولها المسقطة عنها كل مواصفات الدولة، وعنهم كل آليات المواطنة الحديثة ومعاييرها، واستفرادهم من سلطاتٍ تتغول في مسلكياتها المتوحشة ضد شعوبها وكامل حقوقها الإنسانية والمواطنية.
المشكلة في لبنان، كما في العراق، أن القادر على التغيير لا يريد وليس من مصلحته الإقدام على ذلك؛ إذ يعتبر أن تقديمه أي إنجاز لحركة الناس خروج عن دوره المرسوم له إقليميا، وانتقاصٌ من هيمنته السلطوية الطائفية والمذهبية، وهيبته السياسية الاستعلائية. لذلك يلجأ إلى القمع والتآمر على حركة الانتفاض الشعبي، في الوقت الذي يتهم فيه هذه الحركة بأنها مرتبطة ومدعومة من الخارج، في عملية إسقاطٍ لما هو عليه من ارتباطاتٍ خارجية بقوى إقليمية، تقيم علاقاتٍ وثيقة من الدعم والإسناد بأدوات قمع سلطوية محلية طائفية ومذهبية، هي بدورها تقوم بوظائف وأدوار خطيرة جدا، على الضد من مصالح شعبها ودولتها وبعض سلطاتها الحاكمة.
تسعى السلطة من تجييش شارعها، وزجّه في مقابل شارع الانتفاض الشعبي، إلى وأد الحراك
ليس من الغرابة اليوم في بلادنا أن يخرج السلطويون المتهمون بالفساد، ممن "طلعت رائحتهم" منذ زمن، شاهرين سيوف حربهم على الفساد، ناسين أو متناسين أنهم رأس الحربة المفسدة، وهم الذين راكموا ثرواتهم المنهوبة من خزينة الدولة، ومن أموال الناس، طوال سنوات حكمهم، وتحكمهم برأس مال السلطة، المنسجم والمندمج برأس مال الطوائفيين والمتمذهبين، الأبعد ما يكون عن كل الرأسمال الرمزي للإنسان، بطبيعته الأميل إلى حفظه واحتفاظه بمزايا وأخلاقيات الشرف والكرامة الوطنية.
أما سياسات التتبيع للخارج، والتحشيد الطبقي/ الطائفي والمذهبي، كما في لبنان والعراق، وفي بلدانٍ أخرى، لا تختلف طبيعة السلطة والدولة العميقة فيها وفسادها ونهبها المال العام وطابعها
استمرار التحشيد الطوائفي والمذهبي، وفلتان زعران الزعماء وشبّيحتهم، وحتى بعض حرّاس العروش، المحسوبين على المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة ومشاعاتها أو "دولها" الموازية، دفاعا عمن نهبوها ونكبوها، طوال عقود زعماء الحرب الأهلية وعهودها، وهم يكرّرون ذواتهم أو يستنسخون نسخا توريثية منهم وعنهم، ليكرّروا ويكملوا سيرة سرديات فضائح الفساد والإفساد ومسيرتها؛ مثل هذا التحشيد لا يمكنه أن يقدّم أي حل ناجعٍ يساهم في وقف حركة الانتفاض والتمرّد الشعبي الواسع، ضد نظامٍ تجذّر فساده وتبعيته عميقا، في تربة وطنٍ تتلاعب فيه رياح الفاسدين والمفسدين، بالشراكة وبالتكافل والتضامن مع مراكز قوى إقليميةٍ ودولية، تدفع نحو تأمين جزءٍ من كعكة الهيمنة والنفوذ في المنطقة، على حساب شعوب هذه البلاد ومواطني دولها المسقطة عنها كل مواصفات الدولة، وعنهم كل آليات المواطنة الحديثة ومعاييرها، واستفرادهم من سلطاتٍ تتغول في مسلكياتها المتوحشة ضد شعوبها وكامل حقوقها الإنسانية والمواطنية.