دوائر جحيم جباليا

20 ابريل 2014
"مجانين الحرب" (2008/9)، باسل المقوسي / غزة
+ الخط -

لم يكُن بإمكان الشاعر دانتي أليغيري تخيُّل دوائر جحيمية كتلك التي تحدُث في ردهات مشافي جباليا وكأنّها حلّت عليها لعنة ما. كما إن قوانين العدالة الإلهية قد أشاحت بوجهها عن هذا المكان بحيث إنه: بقدر ما تكون الضحية بريئة تقلّ فرص تجنّب استشهادها عن طريق القصف. وفي مشفى كمال عدوان ومشفى القدس يبقى بلاط قسم الإسعاف الأولي الخزفي بمنتهى النظام لأن عمّال التنظيف يواظبون على تنظيف الدم الذي يقطر بغزارة من النقالات التي تُجلب بشكل دائم لنقل الجثث المذبوحة.

كان إياد مطوّق يمشي في الشارع عندما مزّقت قنبلةٌ بناءً ليس بعيداً عنه. هرع هو وبعض المارّة لمحاولة المساعدة عندما أطلقت القوات الإسرائيلية قنبلة أخرى على المبنى ذاته. لقد قتلت أباً لتسعة أطفال وأخوين وأحد المارة الذين أسرعوا لتقديم المساعدة. يمكن أن تحكى القصة عينها عشرات ومئات المرات. لقد نُفِّذت التقنية الإرهابية التامة بحذافيرها من قبل الجيش الإسرائيلي. ما تفعله هو أن تقوم بضرب قنبلة ثم تنتظر حتى وصول المسعفين فتقوم بإلقاء قنبلة أخرى على الجرحى والناس الذين هرعوا لتقديم المساعدة.

في نظر إياد، تعتبر القنابل أمريكية الصنع، لكنها أيضاً تحمل ختم حسني مبارك، الدكتاتور المصري الذي ينافس إيهود أولمرت هنا في غزّة عندما يتعلق الأمر بإثارة الاستياء.

خلف سرير إياد كان يستلقي رجل مسنّ محدّقاً بالسقف ويداه ملفوفتان باللاصق. علمت أنه قد فقد كل شيء، عائلته ومنزله. أخذ يحدّق بشقوق اللاصق المتدلي وكأنه ينشُد جواباً للدمار المطلق الذي أصاب وجوده. اسمه خالد، عمل في "إسرائيل" لخمسة وعشرين عاماً قبل الانتفاضة الأولى. وعرفاناً لذلك، حرمته "إسرائيل" من راتب تقاعدي وكل ما عوّضته به هو سلسلة من الصواريخ من الأرض والجو على منزله، إنه يعاني الآن من الشظايا التي أصابته في كل أنحاء جسده. سألته إلى أين ينوي الذهاب بعد خروجه من المشفى. أجاب بأنه سوف ينضم إلى عائلته.. في الشوارع.

على عكس عائلة خالد، هنالك الكثير من الناس الذين لا يعلمون أين يجدون مأوىً. الأكثر حظّاً منهم عرض عليهم أقرباؤهم وأصدقاؤهم استضافتهم لديهم، لكن هل يمكنك القول بأن وجود 100 شخص محشورين في شقتين كل منهما مكوّن من ثلاث غرف هو في الحقيقة حياة؟ لقد أُلقيت قنبلتان على منزل شخص يدعى أحمد جابر، لذلك قررت عائلته الهرب، لأن منهم من لن يكون محظوظاً في المرة الثالثة.

جاء الانفجار الثالث ودفن تحت ركام المنزل سبعة من أقربائه بمن فيهم طفلان في سن التاسعة إضافة إلى أطفال جاره. أحمد قال: "لقد جعلونا نعود للوراء في الزمن إلى عام 1948. هذا عقابهم لنا بسبب ارتباطنا بوطننا. يمكنهم أن يفصلوا ذراعيّ وساقيّ عن جسدي لكنهم لن يجبروني على ترك أرضي".

انتحى بي أحد الأطباء جانباً وأبلغني بأن ابنة أحمد، البالغة من العمر سبعة أعوام، أو ما تبقّى منها قد أحضر الآن إلى المشفى في علبة كرتون. لم يطاوعهم قلبهم بإبلاغه كي لا يجعلوا وضعه الصحي غير المستقر يسوء أكثر. في المساء أخذوا جهاز الهاتف من إياد لمنعه من تلقّي المزيد من الأخبار السيئة. فقد ضربت قذيفة دبابة منزل أخته فاصلة رأسها عن جسدها في إطار تلك العملية.

في النهاية لم يصل قارب حركة غزّة حرة إلى ميناء غزّة، لأنه وعلى بعد 100 ميل من وجهتهم المقررة اعترضتهم أربعة قوارب حربية إسرائيلية في المياه الدولية، وكانت على أهبة الاستعداد لإطلاق النار على شحنتهم المكونة من أطباء وممرضات وناشطي حقوق إنسان. يجب ألا يجرؤ أحد على إعاقة المذبحة القائمة ضد المدنيين والتي بدأت منذ ثلاثة أسابيع ووصلت إلى أوجها الآن.

تحدّث شاهد عيان عن وجود عدد كبير من الجثث المتفسخة على الطرقات في شرق جباليا وقد التهمت الكلاب لحمها المتعفّن. ويوجد هنالك مئات من الأشخاص غير القادرين على الخروج إلى أي مكان رغم وجود العديد من الجرحى بينهم. كما لا تستطيع سيارات الإسعاف الدخول إلى المكان بسبب القنّاصين المنتشرين على الأسطح والتواقين إلى إطلاق النار.

لقد سئم الفلسطينيون الهوان وسط هذه اللامبالاة من الجميع حتى إن العديد منهم يتّهم الصليب الأحمر الدولي والأمم المتحدة بأنهم لا يفعلون ما فيه الكفاية، بما في ذلك القيام بواجبهم والتضحية بأنفسهم لإنقاذ المئات. لكننا نحن في حركة التضامن الدولية سنقوم، والحالة هذه، بتجهيز أنفسنا ببعض النقالات ونتقدّم سيراً على الأقدام إلى حيث خسفت روح الإنسانية بشكل فاق كل الحدود في هذه العملية.

كان المستوطنون يجلسون بمؤخراتهم الثقيلة في غرف جلوسهم النظيفة على الكراسي المريحة باسترخاء يشاهدون ساستهم وهم يفرطون في الكلام حول الاستراتيجيات العسكرية ضد حماس. في هذا الوقت كنّا، حرفيّاً، نذبح هنا. لقد قصفوا المشافي، ومع ذلك، كان هنالك من لا يزال يدافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. أي بلد ذلك الذي يدّعي الحضارة ويكون الدفاع عن النفس بالنسبة إليه معادلاً للهجوم؟

لقد أحصينا في الأيام العشرين التي انقضت 1075 من القتلى الفلسطينيين 85% منهم مدنيون كما أحصينا 5000 جريح نصفهم تقلّ أعمارهم عن 18 سنة. وتم ذبح 303 أطفال بوحشية. وللعجب، فما زال عدد القتلى في الجانب الإسرائيلي هو 4 قتلى فقط! يشير هذا الأمر إلى أن إسرائيل تعتبر ذبح ما مجموعه 250 فلسطينيّاً على الأقل في حمّام دم انتقاماً كافياً لكل ضحية مدنية إسرائيلية. كيف لا يمكن رد الفعل الوحيد الجانب هذا ألا يعود بنا القهقرى إلى بعض الفترات الكئيبة من التاريخ الأوروبي الحديث؟

دعونا ندخل مباشرةً في صلب الموضوع: هل نتحدث بشكل جدّي عن دفاع عن نفس؟ إلى الصحافيين الذين يدعون اللازمة التي تقول إن حماس تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الإبادة الجماعية وعن خرق الهدنة بين فلسطين وإسرائيل، أرغب في تذكيرهم بموقف الأمم المتحدة من القضية.

لقد عبّر البروفسور ريتشارد فولك، المقرر الخاص بحقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة العامل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بوضوح عن وجهة نظره: في الحقيقة كانت إسرائيل هي من خرق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/ نوفمبر عبر، ما يمكننا وصفه بشكل حرفيّ، إبادة 17 فلسطينيا. والملاحظ أنه لم يسجل في الشهر المذكور سقوط أية ضحية في الجانب الإسرائيلي ولا في تشرين الأول/ أكتوبر أو في الشهرين اللذين سبقاه. وقد ذكّرنا الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الحائز على جائزة نوبل للسلام، بهذه الحقيقة مؤخراً.

حقّاً إنه لشيء مخزٍ بشكل صارخ بأن يكون صحافي مثل ماركو ترافاجليو، الذي حظي بإعجابنا كمؤيد لحرية الصحافة، داعماً لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" فيعتمر خوذة هذا الجيش ويقوم بتسلية الجمهور عبر شاشة التلفزيون بينما يسلّي نفسه بما هو أكثر رواجاً في الوقت الحاضر ألا وهو: إطلاق النار على الرضّع في غزّة.

وبينما كنت أكتب بشكل محموم على كمبيوتري المحمول في مقر وكالة رامتان الإخبارية، كان جميع مراسلي وكالات الأنباء الموجودين حولي يرتدون سترات واقية للرصاص ويعتمرون خوذاً. لم يكونوا قد خرجوا توّاً من دباباتهم، بل كانوا بكل بساطة يجلسون أمام أجهزة الكمبيوتر طيلة الوقت.

في المبنى نفسه وفي طابقين إلى الأعلى حيث تقع مكاتب رويترز، أصيب، مؤخراً، صحافيان بجروح بليغة جراء استهداف المكاتب بصاروخ. مع أن إسرائيل قد أكدت لرويترز بداية هذا الأسبوع أنه لا يتوجب عليهم الإخلاء كونهم سيكونون آمنين في مكاتبهم. أما في هذه اللحظة فجميع المكاتب الموجودة في المبنى خالية تقريباً ولا يوجد في الجوار إلّا أكثر الصحافيين بطولة. يجب أن تُحكى حكاية هذه الجهنم باستمرار بطريقةٍ ما.

أدى قصف مبنى الأمم المتحدة هذا الصباح إلى حدوث أضرار في المبنى الذي موّلت الحكومة الإيطالية بناءَه، إضافة إلى العديد من الأبنية الأخرى. أين أنت يا سيلفيو بيرلسكوني؟

تكلّم جون جنغ مدير عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" في قطاع غزّة بصراحة حول قنابل الفوسفور الأبيض. في حي تل الهوا في مدينة غزة يحترق جناحٌ كاملٌ من مشفى القدس في هذه اللحظات. وقد حوصرت ليلى زميلتنا في حركة التضامن الدولية في الداخل بجانب 40 طبيباً وممرضة و100 مريض. وقد وصفت لنا تلك الساعات الأخيرة المثيرة عبر الهاتف. فقد تمركزت دبابة أمام المشفى بينما ينتشر القنّاصون في كل مكان وهم على استعداد لإطلاق النار على أي شيء. كما يسود الدمار في كل مكان. ومن خلال نافذتهم كان بإمكانهم ليلاً مراقبة بناء تلتهمه النيران بعد أن تم قصفه. وقد سمعوا أصوات استغاثات أطفال وعائلات بأكملها تلتمس النجدة. كانوا عاجزين عن تقديم المساعدة وهم يراقبون أناساً تخرج إلى الشوارع والنيران تشتعل فيهم، ثم ما يلبثون أن يتحولوا إلى رماد.

لقد غيّر الجحيم موقعه وجاء كي يتمركز في قلب غزة، وكنا نحن المغضوب عليهم ابتُلوا بهذه الكراهية اللاإنسانية.

حافظوا على إنسانيتكم!



* مقطع من كتاب "غزّة، حافظوا على إنسانيتكم"، ترجمة مالك ونوس- منشورات "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (2012).

دلالات
المساهمون