وتحمل الزيارة السريعة، التي التقى فيها بوتين بالأسد، ولم تبث وسائل الإعلام الرسمية السورية أو الروسية، حتى بعد ظهر اليوم، مشاهد مصورة لها، دلالاتٍ عديدة؛ إذ إن الرئيس الروسي اختار زيارة قاعدة بلاده العسكرية في اللاذقية (حميميم)، والتي هي بالأساس مطارٌ مدني، قبل وصول القوات الروسية إليه في سبتمبر/أيلول 2015، عوضاً عن زيارة العاصمة الرسمية دمشق، مقر إقامة الأسد، الذي سافر لـ"حميميم"، للقاء بوتين في قاعدته العسكرية.
وحطت طائرة بوتين صباحاً في اللاذقية، قبل أن تقلع بعد زيارة قصيرة جداً؛ لكن الرئيس الروسي أعلن من اللاذقية، بحضور وزير دفاعه سيرغي شويغو، وقائد قواته بسورية سيرغي سوروفكين، أنه "أمر" كلًا من "وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة ببدء سحب مجموعة القوات الروسية إلى نقاط مرابطتها الدائمة"، قائلاً إنه "خلال أكثر من عامين قامت القوات المسلحة الروسية، مع الجيش السوري، بدحر أقوى الجماعات الإرهابية الدولية. ونظرًا لذلك اتخذت قرارًا بعودة جزء كبير من القوة العسكرية الروسية الموجودة في الجمهورية العربية السورية إلى روسيا".
وفي حين أن هذا الإعلان عن سحب قواتٍ روسية من سورية ليس الأول من نوعه، إذ كانت موسكو أعلنت منتصف مارس 2016، وبالتزامن مع جولة مفاوضات "جنيف 3"، أنها قررت سحب قسم كبير من معداتها وقواتها العسكرية من سورية لروسيا، وهو ما لم يثبت حدوثه لاحقاً؛ فإن إعلان سحب القوات الروسية يأتي هذه المرة في سياقاتٍ وظروف مختلفة عن المرة الماضية.
عطفًا على ذلك، يُعتقد أن إعلان روسيا في مارس/آذار 2016، كان مدفوعاً بعاملين أساسيين؛ الأول هو إظهار صورة للمجتمع الدولي، بأن موسكو تريد دفع عملية الحل السياسي للأمام، عوضاً عن التركيز فقط على الجانب العسكري، والثاني يرجح أنه داخلي روسي؛ إذ كان كبار المسؤولين الروس قد أعلنوا مع بدء عمليات بلادهم العسكرية في سورية، أنها لن تطول لأكثر من أربعة أشهر.
لكن الإعلان الروسي الذي جاء على لسان رئيس الكرملين هذه المرة، ومن داخل سورية، يأتي في وقتٍ رجحت فيه القوات الروسية كفة قوات النظام على حساب، مجموع "قوى الثورة والمعارضة السورية"، التي كانت فصائلها المقاتلة قد أحرزت تقدماتٍ ميدانية كثيرة سنة 2015، قبل بدء التدخل العسكري الروسي المباشر بسورية، الذي بدأ أولى عملياته العسكرية عبر حملات غارات جويةٍ منذ يوم 30 سبتمبر/أيلول 2015، وفي شهر أكتوبر/تشرين أول التالي وما بعده، في ريفي حماة واللاذقية الشماليين، اللذين كانا تحت سيطرة المعارضة السورية، ثم توسع لباقي مناطق سيطرة المعارضة في إدلب، وأرياف حلب (وشرقي مدينة حلب)، وشمال حمص ودرعا، وريف دمشق، وغيرها.
وحديث بوتين اليوم، عن بدء سحب قواتٍ ومعداتٍ عسكرية لبلاده من سورية، يأتي بعد أن كرست مُخرجات "أستانة" ما بات يُعرف بـ"مناطق خفض التصعيد"، التي جمدت فعلياً جبهات القتال بين "الجيش السوري الحر" وفصائل المعارضة من طرف، مع قوات النظام والمليشيات المساندة لها من طرف آخر؛ رغم أن معارك عديدة ما تزال دائرة ببعض مناطق الاتفاقيات المبرمة، أبرزها في غوطة دمشق الشرقية، وريفي حماة الشمالي الشرقي، وحلب الجنوبي الشرقي.
لكن الإعلان الروسي الآن عن بدء سحب معداتٍ وقواتٍ عسكرية روسية من سورية، يأتي غداة نشوةِ القضاء شبه النهائي على تنظيم "داعش" في مناطق سيطرته الأوسع والأقوى، والتي كانت مرتعًا له شرقي البلاد؛ بداية من تدمر، ثم مختلف مناطق ريف حمص الشرقي، والبادية السورية، وريف دير الزور الغربي وحماة الشرقي (بالإضافة إلى الرقة وجنوب الحسكة وشرق ديرالزور التي قاد التحالف الدولي العمليات العسكرية فيها)؛ وهي مناسبةٌ لا شك مغرية لتدفع موسكو للقول، إنها أنجزت مهمة القضاء على الإرهاب في سورية، والذي لم تولهِ أهمية في بداية عملياتها العسكرية، التي كانت أولوية موسكو فيها إضعاف كافة "قوى الثورة والمعارضة" السورية، قبل تطويعها باتفاقيات "أستانة".
وبالعودة للزيارة المفاجئة، والتي بدا من التصريحات المقتضبة لبوتين فيها، أنه كان قد "وعد" الأسد بزيارةٍ لسورية، وأُعِدَ لها كما أُعد لزيارتي الأسد لموسكو وسوتشي، بسريةٍ ودون الإعلان عنها حتى انتهائها؛ فإن دلالاتها البروتوكولية، كاختيار بوتين لزيارة قاعدة بلاده العسكرية لا عاصمة سورية الرسمية، تعطي انطباعاً، ربما يكون مقصوداً من روسيا، بأنها تتحرك وتُحرك في سورية ونظامها كما تشاء، وبأنها صاحبة الكلمة الفصل، فيما يتعلق بميداني العسكرة والسياسة لهذا البلد.
ويُذكّرُ اختيار بوتين (الذي غادر اللاذقية اليوم إلى القاهرة) لقاء رئيس النظام السوري في قاعدة روسيا العسكرية بسورية، إلى حد ما، بزيارةٍ قام بها الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، إلى العاصمة المصرية، حيث استقبل من هناك داخل طائرته بمطار القاهرة، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ إذ تُعطي دلالات بروتوكولية كهذه، صورة طبيعة العلاقات بين طرفي الزيارة.