دع الكومنتات وأهلها للخالق!

25 سبتمبر 2019
+ الخط -
كاد صاحبي يجنّ مؤخراً، وهو الحصيف الأريب الذي عهدناه قادراً على التحكم في مشاعره، وما أوشك أن يجنّنه إلا بعض ما يرده من تعليقات على ما يكتبه على حسابه في الفيس بوك، برغم أنه أغلق منذ فترة دائرة التفاعل مع ما يكتبه فجعلها قاصرة على الأصدقاء الذين يعرفهم، بعد أن ظل لفترة طويلة مؤمناً بأهمية التواصل مع الجميع، سواء كان يعرفهم شخصياً أم لا، ولم يقتنع بأن الفكرة من مواقع التواصل الاجتماعي، تفترض وجود حد أدنى من المعرفة أو الاهتمام المشترك، يمكن أن يغذيه التواصل عبر تلك المواقع، لكي لا تكون وسيلة لإثارة المزيد من الضيق والتوتر في ظل حياة اتضح أنها أقصر مما كنا نظن.

لا أستطيع أن أصف صديقي بضيق الصدر أو أصمه بعدم الرغبة في الحوار مع المختلفين معه، فقد كان من أطولنا بالاً وبشكل مستفز أحياناً، وهو يؤكد أن مشكلته الرئيسية ليست مع التعليقات التي تختلف معه في الرأي، أو تجره إلى سكة حوار ممتعة ومحرضة على التفكير فيما كتبه، وإنما أكثر ما يدفعه للضيق والغيظ، هو تلك التعليقات الغريبة التي يشعر صديقي أن كاتبها يتحدث عن شيئ لم يقم بكتابته، وهو ما يدفعه لمراجعة ما قام بكتابته، لعله يدرك من أين جاء سوء الفهم الذي أفضى إلى كتابة تعليق مثل هذا، فلا يجد لها مبرراً، مما أصبح يفقده الثقة في قدرته على التعبير السليم.

يصر صديقي على أن يطلق تسمية "الكومنتات" على هذا النوع من التعليقات، لأنه يرى أنها تستحق ذلك الاسم الهجين، أكثر من وصف "التعليق" الذي لا زال صديقي يكن له التقدير من أيام استماعه إلى التعليقات الأخبارية التي كان يدمن الاستماع إليها على خدمة "البي بي سي" الإذاعية، وفي ذلك الإطار يقسّم صديقي تلك الكومنتات إلى أصناف: "الكومنت الفصيل ـ الكومنت الرزيل ـ الكومنت البضين ـ الكومنت المبيد"، وحين قلت له إنه يتناسى صنف "الكومنت الفشيخ" الذي كان له ذات فترة صفحة مميزة على الفيس بوك، فقال لي إن كلمة "كان" تؤكد صحة نظره، لأنها تقوم بتوصيف صنف لطيف نادر انقرض وسط طوفان الكومنتات التي تجعلك تندم على ما كتبته.


قلت لصديقي وأنا أحاول التفلسف تلطيفاً للموقف، إنه للأسف لن يجد لمشكلته حلاً، لأنه ينسى أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تخلق في الأصل لأبعد من المناغشة والهذر والملاغيّة وتقليب النور لبعضنا البعض، وكلها أمور يمكن في ظلها تفسير فكرة "الكومنت الذي ليس لأمه تلاتين لازمة"، فهو في النهاية ليس سوى وسيلة لإعلان الوجود وتذكير الآخر بنا وإخباره أننا نسمعه ونراه حتى لو كنا لسنا مهتمين بما كتبه أصلاً، لكن مآسي خنق المجال السياسي وقتل الصحافة وتأميم الإعلام في السنوات الأخيرة، جعلت كلاً منا يتعامل مع حسابات "السوشيال ميديا" بوصفها منبراً لإعلان الرأي وساحة لبث الشجون وميداناً لتسجيل المواقف.

لذلك يا صديقي أصبحنا نحمّل كل "كومنت" أكثر مما يحتمل، فيقلق البعض منا إذا لم يتلق على ما كتبه "الري أكشن" المناسب، ويتساءل ما إذا كان "كومنته" مناسباً أو غير مناسب، بل وتفاجأ به وقد أرسل لك رسالة يسألك: هل رأيت كومنتّه أم لا؟ ولماذا إذا كنت قد رأيته لم تعلق عليه بكلمة أو بإيموجي؟ فتضطر لأن تكذب وتقول له إنك لم تره بسبب الانشغال أو بسبب مشاكل تقنية، لأنك تخجل من أن تقول له إنك فكرت في إلغاء صداقته بسبب "كومنته الفصيل أو البضين أو السئيل أو المبيد"، وتؤجل الاعتراف له بأنك اضطررت لاستخدام وسائل المساعدة التي أتاحها الفيس بوك مؤخراً بإخفاء "كومنته" عن الناظرين، وتكاد تطلب منه ألا يعلق على ما تكتبه، لأن أسلوب كتابته الغليظ أو الجلف أو ثقيل الظل يجعلك تندم على اختيار صداقته الافتراضية، وتفكر جدياً في إلغائها، وهو تفكير تافه يليق بمثل هذه الأيام غير المفترجة.

قال لي صديقي وقد انفعل بما قلته متفلسفاً، فاتضح أنني رششت الملح على جراحه الفيسبوكية: طيب إذا كان الأمر يثير كل ما تشير إليه من تعقيدات، فلماذا لا "نحترم بعض ونحافظ على المسافة اللي بيننا" ـ بصوت وحيد سيف ـ ويتشمم الواحد منا رائحة البوست الذي يكتبه صديقه، ويفكر بعدها هل يستحق ذلك البوست أصلاً التعليق عليه بالاختلاف الجاد أو الإفيه اللطيف أو الدعم الجميل أو الاستغراب غير المنفر؟ أم أن من الافضل أن أتركه لشأنه، وأخلّي بينه وبين الناس، ولا أركب عليه بـ "كومّنتي" حتى تزهق روحه إلى بارئها؟ وحين رأى صديقي صمتي على سؤاله الحزين، لأنني فوجئت بأن حالته أصعب مما تخيلت، أخذ يسألني بعصبية تقارب حدود "التهنيج": ممكن تفهّمني؟ هاه؟ ممكن تفهّمني؟ فلم أجد بداً من مصارحته بالحقيقة، وهي أنه يطلب المستحيل، لأن الإنسان بحكم تكوينه كائن "معلّق" لا يمكن أن يتسامح مع أي محاولة لسلبه حقه في "الكومنت"، وهو ما يجعله لا يتوقف عبر التاريخ عن محاولة التعليق عمال على بطال على كل شيئ، وأن صديقي يطلب لبوستاته، ما لم يحصل عليه حتى كلام الله تعالى الذي يفترض أنه غني عن التعليق.

حين طلب مني صديقي توضيح ما قلته، قبل أن يعاجلني بـ "كومنت" يتهمني بازدراء الأديان، قلت له إن ه يمكن أن ينظر إلى حالات التفاعل مع بعض البوستات والتغريدات بـ "الكومنتات" التي ليس لها محل من الإعراب، ويقارنه بالحالة التي تسمعها في الكثير من التسجيلات القديمة لكبار المقرئين في السرادقات الجماهيرية، حيث تجد بين جموع الحاضرين من لا يكتفي بالتعبير عن إعجابه ببراعة المقرئ، ليصرخ مع أول سكتة من أعماق قلبه: "اللاااااه"، فيهتف قائلاً: "الله يفتح عليك" أو "حلو اللي بتعمله ده يا شيخنا" أو "الله أكبر يا راجل يا عظمة" أو "اللي انت بتعمله شغل الأساتذة الكبار"، يحدث أيضاً أن تجد من يصلي على حضرة النبي ويطلب من الجميع أن يزيدوا النبي صلاة، أو يطالب بإعادة آية معينة أكثر من مرة، أو يهتف بنصرة دين المقرئ ويدعو له بالصحة والعافية، أو يطلب الرحمة من الله في آيات العذاب، أو يسأله أن يوعده بالنعيم في آيات النعيم.


وكل هذا أمر طبيعي ومقبول، يمكن إدراجه تحت بند التعليقات الإيجابية والمطلوبة، أما ما يمكن أن ندرجه في بند "الكومنتات" التي يكرهها صاحبي كراهية العمى، فهو ما يحدث في حالات أخرى، حين يبالغ بعض السميعة في إبداء إعجابه بردود أفعال هستيرية، حتى تكاد تصدق ما يقوله بعض هواة قطع اليقين بالشك، عن كون أمثال هؤلاء مدفوعين ـ ومدفوع لهم ـ من المقرئ نفسه لتسخين الجمهور، لكن صوت المقرئ يكون في أغلب تلك الحالات معجزاً في تجليه وجماله، فيدفعك للاعتقاد بأن رد الفعل المبالغ فيه هو تعبير عن شحنة عاطفية لم يجد "المأفور" سبيلا لترجمتها إلى عبارات متماسكة، ولذلك أطلقها في تلك الكومنتات الصوتية المتداخلة وغير المفهومة، والتي تشبه الآن حركات الإيموجي أو الكلمات التي يتم تكرار أحرفها أو تقطيعه، شيئ يشبه أن يقف أحد أولئك السميعة ويكتب في الهواء للمقرئ: "م ح ت ر م".

لا يخلو الأمر من هواة التميز "الكومنتي"، مثل أولئك الذين لا يقبلون بانفراد المقرئ بالخشبة لوحده، لذلك يتركون مقاعدهم ويتوجهون نحوه، هكذا نفترض لأننا نسمع أصواتهم واضحة في التسجيل، ويقولون "كومنتاً" ما، أحياناً لا يكون له أي لازمة، وأحياناً يكون كلاماً عادياً، كان يمكن أن يقولوه وهم مرزوعون على مقاعدهم، لكنهم أخطأوا تقدير أهمية ما سيقولونه فخبطوا المشوار على الفاضي، وربما استحقوا بذلك نظرات السخرية أو "ريبلايهات" غاضبة من نوعية: "اقعد يا أخينا خلي مولانا يشتغل"، وأحياناً يكون في كلامهم إضافة ما، قد تلقى قبول الجمهور في اللحظة المواتية، وقد تلقى غضبه أيضاً، فالأمر يتوقف على ظروف معقدة وغامضة، ككل ما له علاقة بهذه الحياة الدنيا.

خذ عندك مثلاً ذلك الرجل الذي لا نعرف عنه سوى أن صوته شديد التميز الدرامي بالمعايير الإذاعية، والذي وقف مقاطعاً الشيخ محمد عمران خلال تجليه في قراءة سورة الزمر خلال ليلة أحياها في إحدى مدن الصعيد، وبالتحديد قبل انتقال الشيخ عمران من الآيات التي تتحدث عن مصير المؤمنين في الجنة، إلى الآيات التي تروي كيف سيساق الكفار إلى جهنم زمراً، ليقول له بحماس شديد: "بتوع جهنم يغوروا في داهية يا شيخ محمد ما عايزينهمش، خلينا في الجنة، عايزين نتجنن بقى"، وقد بدا لي من رد فعل الشيخ عمران أنه معتاد على مثل هذا النوع الفصيل من الجمهور، ولذلك مكنه ثباته الانفعالي من ألا يقوم بسكع الرجل على قفاه، أو دعوة الحاضرين إلى أن يعينوه على سكع الرجل على قفاه، ولذلك التزم الصمت وقرر العودة إلى قراءته الفاتنة التي تستحق أن توضع بجدارة إلى جوار تجليات الشيخين مصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوي.

حين تسود حالة حماسية كهذه في السرادق أو القاعة، ينفلت الزمام من المقرئ للأسف، فيشعر بعض الحاضرين أنه سيتهم بالتقصير إذا لم يقم بالمشاركة بتعليق أو مداخلة، ولأنه يخاف من قول عبارات يمكن الرد عليها أو اتهامها بالاستظراف أو ثقل الظل أو الهزل في غير موضعه، يقرر أن يختار مدخلا آخر، هو التعليق على أداء الجمهور، أو بمعنى أصح على "كومنتات" الجمهور، وبدلا من أن يقترب من الميكروفون ليوجه خطابه إلى المقرئ، يقترب منه ليوجه خطابه إلى الجمهور معلقا على أدائهم بلهجة توجيهية تصحيحية، وبنبرات حازمة حاسمة.

يحضرني في ذلك مثال الرجل الذي اقترب من الميكروفون وشخط في الجمهور حين تعالت أصوات إعجابه بقراءة الشيخ عمران لآيات العذاب في نفس تلك السهرة القرآنية البديعة، قائلاً للجمهور: "ما تزعّقوش في الحتة دي يا ولاد، دي إنذارات واستفهامات توبيخية وتقريعية، اسمع يا جدع وصلي على النبي"، مع إنه كان سيحسن إلى نفسه وإلى الشيخ عمران وإلى الجميع، لو كان قد التزم الصمت ونقطهم بسُكاته، ولأنني لم أر وجه الرجل، أصبحت أضع صوته على وجه كل من أراه لا يجد جديداً يضيفه، أو نافعاً يقوله في كومنت أو بوست، فيقرر أن يلعب دور ضابط الانفعالات وموزع المشاعر، ليهتف في غيره: "ما تزعّقوش في الحتة دي يا ولاد، دي إنذارات واستفهامات توبيخية وتقريعية، اسمع يا جدع وصلي على النبي".

باختصار، لا تشغل نفسك بالكومنتات يا صديقي، اكتب ما لديك، ودع الكومنتات وأهلها للخالق، وإن كنت ستأخذ عني شيئاً، فدعني أهديك ما كتبته في "بايوهي" أو تعريفي بنفسي على مواقع التواصل الاجتماعي"دع ما يغيظك إلى ما لا يغيظك، وإن وجدت ما لا يعجبك فارحم نفسك بالأنفولو، وتذكر دائماً أن الحياة قصيرة".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.