عملياً، إعادة التذكير بأن الفلسطينيين محاصرون، باتت مسألة تقف على عاتق حركة حماس وحدها، وهي التي هددت قبل أيام، بما سمته "سيناريوهات مجنونة" لرفع الحصار. تهديد جاء على لسان الناطق باسم الحركة سامي أبو زهري، وتزامن مع تلميحات إيرانية عبر قنوات إعلامية محسوبة عليها، تفيد بأن ما يجري في غزة، يعود إلى "سياسات حماس الخاطئة".
إن المسألة "الأخلاقية" (فكّ حصار الفلسطينيين الخانق منذ العام 2006)، في منطقة تتجاذبها المعارك الانفصالية والحروب الأهلية، أصبحت مركونة في زاوية الإهمال، أمام الثورات المضادة، ومزاعم الحرب المصرية على الإرهاب، والتحالف الدولي/العربي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". في حين ينتظر الإطار الفلسطيني الرسمي نتائج الانتخابات الإسرائيلية في مارس/ آذار المقبل، وهي أقرب إلى ذريعة، كونها لن تنتج جديداً بإجماع غالبية المراقبين، أو تحرك جديداً/ قديماً في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في ظل إدارة باراك أوباما الحالية.
إقليمياً، لا تبدو فلسطين المحتلة عموماً وقطاع غزة المحاصر على وجه الخصوص، أولوية مع الحكم السعودي الجديد الذي يضطلع أو يفترض أن يضطلع، بملفات جيوسياسية ملحة وأكثر خطورة في شماله وجنوبه. أما دولياً، فالجهد مصبوبٌ على حلحلة ملف إيران النووي، وتطويق أي صراع محتمل مع إسرائيل، على شاكلة رد حزب الله المحسوب في شبعا، وهو التطويق الذي امتد على الملف السوري بـ "تفريغ الاحتقان" في الداخل اللبناني، عبر تفاهمات أمنية ثانوية.
أمام هذه المعطيات أيضاً، برزت في الأفق دعوة إعلامية من طهران إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل إلى زيارتها. الدعوة ترافقت مع حملة علنية لوسائل إعلام محسوبة أو قريبة من إيران، وصلت إلى حد تحميل حماس مسؤولية الأوضاع التي وصل إليها الفلسطينيون في قطاع غزة، مع تغييب واضح للحصار الإسرائيلي-المصري ومفاعيله السياسية.
الهجوم الأشد من قبل الإعلام المحسوب على إيران، وصل لغاية اتهام الحركة بأنها تدير أزمتها، إما "بخوض حرب مع إسرائيل أو التصعيد ضد سلطة محمود عباس"، أو أنها كحركة، جزء من جماعة الاخوان المسلمين، كانت على الدوام في خصومة مع المنظمات الفلسطينية، بما فيها حركة الجهاد الإسلامي التي زُعم أن حماس تصفهم بالمتشيعين، وأن حكومتها السابقة في غزة باتت رمزاً شكلياً للمقاومة، وليس فعلاً مقاوماً ضد الاحتلال.
بالنسبة إلى حماس، أبدى القيادي فيها أسامة حمدان، والذي يضطلع بملف العلاقات مع طهران، وتردد أنه أجرى حوارات مع أكثر من مسؤول إيراني وفي الحرس الثوري العام الماضي، مرونة سياسية مطلوبة عندما ألمح إلى أن أجنحة ما قريبة من دمشق، تعمل على عرقلة أي اختراق لإذابة جليد العلاقة بين إيران وقيادة حماس. جليد تراكم جراء موقف حماس المدعوم شعبيا في العام 2011، بضرورة الوقوف مع الثورة الشعبية السورية، ما يعني الخروج من دمشق والقطيعة مع نظام بشار الأسد.
أما إيرانياً، فقلد أكد مستشار رئيس مجلس الشورى الإيراني للشؤون الدولية، حسين شيخ الإسلام، أن مشعل مرحب به في أي وقت من دون شروط، وأن العلاقة بين الطرفين بطبيعة الحال متأثرة بالموقف من سورية. والدعوة تلقتها حماس بترحاب، وهذا مفهوم ضمناً، كون الحركة تواجه ضغطاً شعبياً، جراء استمرار الحصار الإسرائيلي ــ المصري. لكن هذه المرة لا يقف وراء هذا الضغط تيار القيادي الأمني المفصول من حركة "فتح" محمد دحلان كما جرى نهاية العام 2013، بل أن ما يسمى "اعلام الممانعة" هو الذي بدا يحرّض أهل غزة ضد الحركة وقياداتها ومقاوميها بشكل شبه يومي تقريباً.
تستفيد إيران من عدة تطورات إقليمية تجعلها في هذا التوقيت، هي التي تطلب زيارة مشعل، مع علمها اليقيني بأنها لن تقدم شيئا له، وأنها غير قادرة وفق طبيعة الحصار الحالي واشتراطات حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، أن تمد القطاع أو المقاومين فيه بأي نوع من المساعدة. كما تعلم طهران جيداً أن قطيعة حماس مع نظام دمشق، ومن ثم الانقلاب على الرئيس محمد مرسي في مصر، حد بشكل كبير جداً من خياراتها السياسية.
ولم تستفد حماس من نتائج "العصف المأكول"، كونه لم يترجم إلى رفع للحصار، ويعزى ذلك إلى دور إقليمي ومصري بالأساس، عمل على تفريغ الشروط المدعومة من تركيا وقطر من مضمونها، إذ توقفت الحرب وبقي الحصار، بل زاد وطأة مع "عداوة" نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي للحركة.
التقديرات تتجه إلى أن ما تحتاجه إيران من مشعل، هو زيارة يغلب عليها طابع المجاملات البروتوكولية، ذلك إن تمت الزيارة، والتي ستترجم من قبل الإعلام المحسوب على الممانعة، بأن قادة إيران يمدون يد العون إلى جماعة مقاومة تختلف معها مذهبيا وحول سورية. وذلك على عكس الرسالة التي بعثت بها حماس من داخل غزة لتأييد عملية حزب الله في شبعا، إذ إن حماس تتمسك بالمقاومة كنهج وإن كان ضمن توازنات إقليمية، أما إيران فتراها أداة براغماتية تغلفها "بروباغندا" الجمهورية الإسلامية.
كذلك، فإن إيران تدرك أنها تواجه رفضاً شعبياً عربياً واسعاً، جراء سياساتها الطائفية في العراق وسورية واليمن والبحرين. وهنا يأمل صانع القرار الإيراني بكسر هذا الطوق مستغلاً ضائقة حركة حماس. ما يعزز هذا الاستنتاج، مواصلة الإعلام التابع لطهران، في تأليب أهالي قطاع غزة ضد الحركة حتى اللحظة، كوسيلة ضغط على مشعل لإتمام الزيارة، وهو القرار الذي سيعود إلى قيادة حماس في النهاية، لكن الأهم أن إيران، والتي هي شريك الغرب في الحرب على الإرهاب كما تكشف الوقائع، حسمت أمرها بشأن الرد على موقف حماس من الثورات العربية عموماً، وذلك إما بإخضاع حماس لها أو حرقها عربياً.