دعوة إلى وحدة ساحة الثورتين العراقية والسورية

19 يونيو 2014
+ الخط -

صياغة الرأي العام وتوجيهه حرفة وظّفت كلّ ما حققه العلم والتقانة في مجال الإعلام، أو ما اصطلح على تسميته بالميديا، بعد أن تعولمت حتى لغة التخاطب في هذا الزمن الذي اختلطت نهاياته مع بداياته، وتفاعلت فيه الأفكار المتولدة في زوايا الكون الأربع. ومن هذه القناعة المتولدة، يجري، وعلى نطاق واسع، بيع سلع الأفكار وتأسيس القناعات. لم تكن عملية شيطنة نظام الحكم الوطني في العراق، بعد النصر المؤزر الذي سطره العراقيون في 8 أغسطس/آب 1988، بعيدة عن أذهاننا، عندما خلقت أسطورة قصف نظام الحكم وقواته المسلحة لحلبجة بالسلاح الكيمياوي أوائل نيسان/إبريل 1988، ومع حقيقة أن حلبجة ضربت بهذا السلاح فعلاً، فإن بوصلة صياغة الرأي العام وصناعة العدو تم توجيهها إلى نظام الحكم في العراق، وليس إلى السلطة الحقيقية التي استخدمت سلاحاً كيمياوياً آخر، من غير المتوفر لدى العراق، وادُّعي أن العراق استخدم السلاح الكيمياوي ضد شعبه، على الرغم من أن مختبرات ومراكز بحوث أميركية تحديداً أثبتت أن إيران، وليس العراق، هي من قصف حلبجة، ربما استهدافاً لفرقة عراقية، كانت تتمركز فيها وحولها. وعلى الرغم من أن السلاح الكيمياوي سلاح مقيت، ولا فائدة عملياتية ترتجى منه، إلا اللهم زرع روح الهلع في نفوس الأعداء، لكن ذلك لا ينفي أنه استخدم من جهة وألصق بأخرى، تم نتيجة هذا التشويه للحقائق الوصول إلى هدف محدد، هو شيطنة نظام الحكم العراقي، وإلصاق تهمة إنسانية به، تمهيداً لمراحل لاحقة، تم فيها استهدافه ومحاصرته وتدميره، هو والعراق سوياً عام 2003.
تعرضت المقاومة العراقية المجيدة التي انطلقت غداة احتلال بغداد، وتدنيسها، إلى عملية شيطنة مشابهة، انطلقت معها، صنعتها قوات الاحتلال، ومن معها من تابعيها من العراقيين اللاجئين خارج القطر، والذين تحالفوا مع الغزاة ومهدوا لهم الأرض والسبيل. هنا، تم توظيف اسطورة القاعدة باعتبارها القوة الإرهابية العالمية المجربة والمكروهة على نطاق واسع، باعتبارها من تقوم بعمليات المقاومة العراقية ضد الغزاة، وتابعيهم من سكان المنطقة الخضراء. ونظراً إلى أن الرسالة التي حملها الغزاة معهم هي زرع "الديموقراطية وحقوق الإنسان في العراق، وتقديمه مثلاً لدول المحيط، عسى أن تتبعه في هذا النهج الحضاري"، فإن كل من وقف ويقف بوجه هذه الرسالة الحضارية سيكون إرهابياً، ومرّ هذا التلفيق وليُّ الحقائق على كثيرين، وأضحى مسألة مسلماً بها، لأن مقدماتها ونتائجها معقولة، إرهابيون يقاتلون نهج الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني الحضري.
هذه هي المقدمة المنطقية لما جرى ويجري الآن، خلق أسطورة يلتف حولها خالقوها والمتلقون، وشيطنة طيف واسع يمتلك الشرعية والمشروعية والرسالة الوطنية، التي في أساسها رسالة حرية وديموقراطية وحقوق إنسان فقط، لأنه لا يتوافق مع الوصفة التي جلبها الغزو إلى العراق، وصفة التفتيت على أسس طائفية وإثنية، من جهة، ولا مع حقد متجذر في نفوس بعض القوى الظلامية التي أتى بها الغزاة معهم. خلقت هنا الأخت الكبرى، وهي القاعدة التي ثبت عدم وجودها لا هي ولا جذورها في المجتمع العراقي قبل الغزو الأميركي للعراق 2003.


وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المحتلون وأعوانهم، في وضع حدّ لوجود القاعدة في العراق، في العقد الأول المنصرم من القرن الحالي، إلا أن الفشل كان نتاج كل فعالياتهم، إلى أن رأى قطاع من المقاومة العراقية أن يتحالف مع الغزاة، ويضع، بنفسه، حداً لوجود القاعدة في حاضنتها. تم ذلك بفعل قبائل الأنبار، وفصيل من المقاومة في حينه، وشكلت ظاهرة الصحوات التي ما أن انتهت مهمتها، حتى أضحت، هي الأخرى، هدفاً للحكومة الطائفية في بغداد، واستهدفت، هي وقياديوها، بالدرجة نفسها، الطيف الواسع من المجتمع المقاوم في وسط وشمالي العراق. بل إن هذه الصحوات أضحت هدفاً لجهتين متعاديتين، هما الحكومة العراقية وأدواتها من جهة، وبقايا القاعدة من جهة أخرى. صفيت القاعدة عملياً وصفي قادتها الكبار، وأبرزهم الزرقاوي، وصفي كذلك قائد الصحوات، محمد أبو ريشة، غداة احتفاله بزيارة الرئيس الأميركي، جورج بوش، له في "ديرته" لتقديم واجب الشكر له على جهوده في تصفية القاعدة في الأنبار. خرجت الصحوات بكم هائل من كره بيئتها، واشمئزازهم من الدور المشبوه الذي قاموا به، ليس لتصفيتهم القاعدة، بل لفتحهم أبواب مناطقهم لمشاريع تدمير القناعات، والنسيج الاجتماعي التي بدأت على قدم وساق، وأنتجت ما نراه حالياً من عودة الصحوات للتحالف مع من أذلها وأهانها طوال نحو عقد.
انطلق الربيع العربي، وانطلق معه ربيع عراقي حقيقي، عابر لخط الفصل الطائفي والإثني يوم 25 مارس/آذار 2011، حيث خرجت المحافظات العراقية كلها من البصرة إلى السليمانية مطالبة بالتغيير، وجرى قمع هذه الانتفاضة النزيهة، وأعيد إحياء موضوعة الإرهاب والقاعدة، لتذكير المنتفضين من المحافظات الجنوبية بالقاعدة والتفجيرات، وتمكنت قوى السلطة من العودة إلى نهجها، في استهداف القطاع الواسع من عرب العراق، في الوسط والشمال الذي لا يتطابق مذهبياً مع طائفيتهم السياسية، واستمر الشحن الطائفي على أعلى مستوياته، مع إجراءات القمع والاعتقالات الكيفية التي لا دليل لها، وانتهكت الكرامات والأعراض لعشرات آلاف المعتقلين، ونفذت عمليات إعدام، بناءً على محاكماتٍ تدور حول عدالتها الشكوك. واستهدفت رموز المجتمع العربي السني الموجودين في الحكومة المركزية، وألصقت بها تهم الإرهاب، وحوكمت غيابياً وحكمت بالإعدام، كما في قضية نائب الرئيس العراقي، طارق الهاشمي، وملاحقة نائب رئيس الوزراء، رافع العيساوي، على الرغم من أنهم من العملية السياسية نفسها التي أتاحت لرئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، الحكم وفق صفقة سرعان ما تخلى عنها.
هنا، ولدت الشقيقة الصغرى للقاعدة في العراق أولاً، باسم "الدولة الإسلامية في العراق" (داع)، التي مارست وجودها في القسم الشمالي من العراق تحديداً، ثم استغلت ما جرى في سورية، ووسعت حضورها إلى بلاد الشام، واتخذت تسمية "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" (داعش) أو ( ISIL). كان لظهورها أثر سلبي كبير على الثورة السورية، فهي لم تضف للثورة شيئاً، بل أسهمت في تمزيقها وتشتيت جهدها، وإعطاء النظام مبرراً يتحدث فيه مع العالم، باعتبار أن ما سينتج لو انتصرت هذه المجاميع سيكون كارثة على المنطقة. وعلى المنوال نفسه، جرت حليفة الأسد في العراق وهي الحكومة التي يديرها رئيس الوزراء الحالي، بشيطنة الحراك الشعبي السني الذي استمر أكثر من عام بطبيعته السنية، والمطلبية التي لم ترفع إلا شعار المساواة في المواطنة، إلى جانب ثلاثة عشر مطلباً آخر، يتوافق عليها العراقيون جميعاً، وكان يتوقع أن تلحق محافظات جنوب العراق بها، لولا بعبع التمزيق الطائفي والتحذير من "الإرهابيين" الذي أضحت داعش تمثلهم حالياً، وجرى وصم الحراك الجماهيري واسع النطاق في المحافظات الست بأنه حراك إرهابي، ترعاه "داعش". تحت هذه الذريعة، استعدت الحكومة العراقية الرأي العام العالمي وجهات القرار الرسمية في الغرب، وتمكنت من الحصول على سلاحٍ نوعي، استهدفت فيه الحراك، وبهذا، بدأت مرحلة ثانية من التصعيد؛ قوى الحكومة تستهدف مدن الأنبار الرئيسية، باعتبارها حواضن لداعش، فمنذ نهاية العام المنصرم، تستهدف الفلوجة والرمادي وغيرها من المدن العربية السنية، من دون أن تتمكن قوات الحكومة من الدخول إلى المدينتين الكبيرتين، الفلوجة بشكل رئيسي والقطاع الأكبر من الرمادي ومحيطهما، على الرغم من كل الأسلحة المتوفرة لهما.
فوجئت أجهزة الدولة بالصولة الأخيرة على الموصل من الثوار الذين كانوا يشكلون الطيف الكبير الذي قام بالعملية التي يبدو أن مقاتلي "داعش" كانوا في مقدمتهم، وسقطت الموصل، واندحر جيش الحكومة، وفرّ بقياداته، تاركاً أسلحته ومعداته غنيمة للثوار، وتداعت التطورات، وأضحت الثورة الآن على أبواب بغداد.
الثابت إن "داعش" ليست كل الصورة، وإن حجم الفصائل الأخرى والجماهير الملتحقة بالثورة هو أكبر منها، لكنها تتحرك بميزتين، حسن التخطيط، وعزم الاستهداف. الفصائل الأخرى عراقية الهدف والمشروع بالتأكيد، لكنها لن تقع في فخ الصحوات مرة أخرى، هي تسعى إلى أن تكون الأجندة الوطنية العراقية هي السائدة، وواثقة أنها ستصل إلى هذه النتيجة، في مستقبل الأيام، من دون أن تستهلك قواها في صراعات جانبية.
وهنالك درس مستنبط جديد، هو وحدة ساحة الثورتين العراقية والسورية، الأمر الذي أصبح يستدعي التنسيق بين القوى الثورية الوطنية للثورتين، باعتبار ساحة العراق وبلاد الشام (سوراقيا)، كما يدعوها القوميون السوريون، أضحت واحدة. في هذا التنسيق وتوحيد الخطط خير كثير للثورتين، والخير الكثير في إسقاط المشروع الإيراني الذي يستهدف المشرق العربي، خصوصاً إن الأخبار تؤكد أن هيئة أركان قاسم سليماني تقود الهجوم المقابل على مناطق الثوار في وسط وشمالي العراق، والتي جاءت الأنباء لتؤكد فشل صفحته الأولى، بفشلها في استعادة تلعفر القاعدة الكبرى التي فقدتها لصالح المقاومة التي دخلتها الثلاثاء.
وحدة الساحة الثورية العراقية السورية هي الجواب على المشروع الإيراني ومشروع أخوات "داعش". فهل سيرقى قادة المقاومتين العراقية والسورية لهذا التحدي؟ أصلّي وأتمنى.




 

08A6C6A7-5596-4EDC-ACA9-A8FCF4C66DBF
عبد الوهاب القصاب

خبير عسكري، وكاتب وباحث، ضابط سابق برتبة لواء في الجيش العراقي