30 أكتوبر 2024
دروس تركية للعالم العربي
تتشدّق دول عربية لمنع المسارات الديمقراطية من الوصول إلى منتهاها، بالأخطار والتهديدات التي يمكن، وفق رؤى السلطات الحاكمة، أن تعصف بالوحدة الوطنية والأمن القومي. وتعمل هذه السلطات، تجسيدا تلك الرؤى، على وقف المسارات الانتخابية، وتقوم بانقلابات لوأد تلك المسارات التغييرية. ولكن، يأتي من يغرّد خارج سرب التسلطية العربية، ويُسقط تلك الذرائع، واحدةً تلو أخرى، ويثبت، بالأدلة الواقعية، أرقاما ومشروعا وتقدما في لعبة المعادلات الدولية والإقليمية، أن الأمن القومي يزداد متانةً وقوة، باحترام الحرية واختيار الشعب وبناء مسار تقوية الدولة وتقوية المجتمع، وليس تقوية الدولة بقتل المجتمع، كما يحدث في العالم العربي، منذ عقود. إنها تركيا، تركيا حزب العدالة والتنمية، ورجب طيب أردوغان.
يستند الاستعصاء الذي تتّصف به الدّول في العالم العربي عن التّغيير إلى غياب الشرعيّات الحقيقيّة المستمدّة من الشّعب السيّد، ويمارس سلطته/ تسلّطه من خلال تلك النّخب، وتلك الشرعيّات التي استحدثها، وهو ما يمكنّه، على الدّوام، منذ موجة الاستقلال، من البقاء والتجدّد، بعيدا عن مبدأي تجديد النخب ودورانها، من ناحية، والتداول على السلطة، من ناحية أخرى. وقد استحدث، أيضا، للبقاء، حججا عديدة، لعلّ أهمها أن مغامرة التّغيير قد تأتي بما يمكن
تسميته "البعبع الإسلاموي" ورديفه الذي صوّر به الإرهاب، وهي حجة مصدّرة إلى الخارج، لمنع مسار الدّيمقراطية من الاستقرار في العالم العربي والنّجاح فيها، إضافة إلى أنّ هذه الحجّة منتجة لإدراك لدى صانع القرار الغربي بأنّ العالم العربي غير متوائم مع الديمقراطية، وبأن التسلّطية كفيلة باحتواء الأخطار والتهديدات، وفي مقدمتها الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وهناك حجة أخرى، على صلة بالمخاطر على الأمن القومي تارّة بوجود خطر خارجي/ مؤامرة محدق بالأمّة على غرار الربيع العربي، وتارّة أخرى، بولاء المعارضين للأيادي الخارجية، وكلاهما يستدعي غلق اللّعبة السياسية، وتأمين الأوضاع بإعلان حالة الطوارئ التي لم يخل منها بلد عربي منذ الاستقلال تقريباً.
تعتمد التسلّطية على أدوات ليّنة، وأخرى صلبة، لتستمدّ منها قواها وتمتدّ في الزّمن. من الأدوات الصّلبة، أساسا، حالة الطوارئ وما يستتبعها من التّضييق على الحريّات بشتّى أنواع التّضييق. أمّا الأدوات اللّينة فمنها الديمقراطية الصورية، ومحورها وسيلتان: حرية التعبير وشراء السلم الاجتماعي، إلى جانب التعددية الحزبية التي من أبين صور عملها النضالي الولاء لبرامج الحاكمين والإعلان، جهارا، أنها لا تطمح إلى الوصول إلى الحكم، بل المشاركة للمشاركة. وفي سبيل ذلك تؤكّد، دوما، أنها غير معنيّة بالرّئاسيات (الحكم)، بل همّها الّتشريعيات والمحليات ومزايا السّلطة التي تتحالف معها، كونها صنيعة التسلّطية، ومن أدوات دوامها/ إدامتها.
من نتائج هذه التسلّطية ثنائية أصبحت، الآن، مرادفةً للعالم العربي، أينما ذكر في الإعلام أو في التّقارير الدّولية، وهي ثنائية الفشل في بناء الدولة وفشل في خيار النّموذج الاقتصادي، وكلاهما هيكلي وليس ظرفيا، ليكون من ثمار ذلك تذيّل للمؤشرات أيّا كانت، سواء السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية أو العلمية- الثقافية- التربوية. وربما تكون هذه الصّورة قاتمة، لكنّها تعكس الحقيقة كاملة لوصف التسلّطية وحججها في منع الوعي، خصوصا أنها حجج بقيت هي نفسها، وإنْ تتلوّن بلون الوقـت، وتلبس لكل حدث وظرف لبوسه الذي يليق به، لكن النّتيجة واحدة: التّهديد هو التسلطية وليس التهديدات/ المخاطر الخارجية والداخلية، على حدّ سواء.
ولم يعرف الحكّام العرب أن ثمّة عالماً آخر، يمكن أن يبتكر مقاربة عكسية للحفاظ على الأمن القومي، ودرء التهديدات/ المخاطر التي تحدق به بعيدا عن التسلّطية والثّورات المضادّة، بل وبعيدا، أيضا، عن الفشل أيّا كانت طبيعته. كما لم يعرفوا أن ثمة مقاربات أخرى، تحافظ على الأمن القومي، بالحفاظ على خيار الشعب والعمل لإنتاج سياسة عامة، كفيلة برفع صورة البلد، بناء مشروع للقوة بكل أبعادها.
تركيا فعلت هذا، ويبدو أنها لم تدحض الحجج العربية لإدامة التسلطية فقط، بل أعطت العرب درسا بأن ثمة طريقا آخر نحو التغيير، يمر عبر خيارات سديدة، منطقية وبراغماتية، تنتهي كلها إلى مشروع النهضة الحقيقية. وتركيا انطلقت من الظروف نفسها، حيث كانت تعاني من المعضلة نفسها التي دامت معها منذ سقوط الخلافة العثمانية. وكان باديا عليها مرض الاستبداد نفسه، بأعراضه وتداعياته. وقد أدّى ذلك المرض بتركيا إلى أن تصبح ذيلا في كل المؤشرات، على الرغم من السماح لها بالعضوية في حلف شمال الأطلسي، وكانت ذريعة الاستبداد مانعا لها في طريق اكتساب عضوية السوق الأوروبية المشتركة الذي أصبح فيما بعد اتحادا أوروبيا، بفيتو يوناني، ثم فرنسي - ألماني مشترك.
أخذ الضّعف بتركيا، في نهاية التسعينيات، كل مأخذ، حيث شارفت على الإفلاس. وعندها اهتدت إلى سلسلة من الإجراءات الحيوية، استهلّتها باتّفاق مجتمعي لإعادة النظر في الوضع العام للبلاد رأسا على عقب، ثمّ تبنّي دستور نظّم العلاقة بين الجيش والسياسة، وانتهاء برسم سياسة انبعاث استراتيجية واقتصادية، في المقام الأول، وصلت بها إلى ما نراه الآن: قفزة من العدم، من المرتبة 88 تقريبا في الاقتصاد العالمي، إلى الاقتصادات الـــ15 الأولى، ناتج قومي خام مضاعف 4.5 مرات، دخل فردي مضاعف أربع مرات، صادرات مضاعفة خمس مرات، صناعات دفاعية وفضائية، تحسّن في قطاعات الصحة والتربية والتعليم، عدد مهول من الجامعات ومراكز البحث.. إلخ.
ولم تخرج تركيا عن الاتفاق المجتمعي المنعقد لتنظيم شؤون الحكم في نهاية تسعينيات القرن الماضي، على الرّغم من التحوّلات العميقة في المعادلة الإقليمية، بعد غزو العراق عام 2003، أو في أعقاب ثورات "الربيع العربي"، وخصوصا في جوارها المباشر، سورية. كان ممكنا للعسكريين أو للسياسيين المستحوذين على الحكم التراجع عن تلك المكاسب، لصنع مشهد سياسي جديد، بمرجعية التهديدات/ المخاطر، لكن الأتراك أثبتوا أن تلك التحولات سبب وجيه للإبقاء على تلك المشاهد السياسية، خصوصا أنها أنتجت مكاسب عظيمة، ومنها تغير رؤية الغرب لتركيا، باعتبارها لاعبا كبيرا في مسائل كثيرة، اقتصادية، سياسية وأمنية –عسكرية.
ووفّرت التجربة التركية مرجعية أكيدة لإمكانية تعايش الديمقراطية مع إقليم مضطرب، أو في ظل تحولات عميقة في الجوارين، المباشر والإقليمي، حيث أن المواطن والدولة يصبحان لاعبين متلازمين، ليس لأحد الأولوية على الآخر، كما لا يمكن تغييب أحدهما (المواطن) من أجل الحفاظ على الدولة، كما تجري المحاججة به في العالم العربي منذ عقود.
لماذا يبقى العالم العربي الاستثناء الوحيد في العالم بالنسبة لإقامة الديمقراطية، بل في مجالات كثيرة متّصلة بحريّة الإنسان، حقوق المرأة، تردّي التّربية والتّعليم، إضافة إلى تصنيفاتٍ تضع العرب في ذيل التّرتيبات العالمية على كل المستويات، وفي كلّ المجالات؟. بالتعمّق في الدّرس التركي للعالم العربي، في هذا المجال، الديمقراطية وتلازمها مع بناء القوة الذاتية، يمكن التوصّل إلى جملة نتائج، أولاها متّصلة بأن الفشل، تشخيصا وعلاجا، يحتاج للاعتراف به مقدّمةً لصنع الانبعاث والوثبة نحو الأمام، في حين أنّ النتيجة الأخرى متعلّقة باتخاذ أسباب الانبعاث من تحضير أرضيّة للااتفاق المجتمعي، ثم توفير سبل نجاحه من فتح المجال لتجديد النّخب، ودوران تكوينات المجتمع برمته (مجتمع مدني، أحزاب، شخصيات/ كفاءات وطنية)، للقيام بتلك المهام الحيوية في إصلاح الدولة، أي توفير المكان للكفاءة في كل المجالات.
احتاج المشروع لتجسيده، في النتيجة الثالثة للدرس التركي، إلى نص قانوني، الدستور وإجرائية ديمقراطية، أساسها الانتخابات، لتمكين الخيار السيد للشعب، مع تأكيد التوصل إلى اتفاق
مجتمعي، لتحييد الجيش عن العمل السياسي، أو التدخل في السياسة لأي سبب ثم، نتيجة رابعة، تبني المواصفات الغربية للحرية السياسية ولمبادئ حقوق الإنسان، بتحسين ظروف العيش وتمكين المساواة في التربية، التعليم و الصّحة. ويؤدي تحسين ظروف عيش المواطن والتمكين لسبل الانبعاث في ميدان الاقتصاد، نتيجة خامسة، إلى الرفع من أداءات ذلك المواطن المهنية. وبتوازي ذلك، في نتيجة سادسة، مع التمكين للكفاءة، فقط، مؤشرا للتسيير والترقية، يرتفع الاقتصاد وتبرز الجودة ويتغير الترتيب في الاقتصاد العالمي بزيادة الإنتاج والتصدير، ولا يتأتى ذلك إلا بقرار استراتيجي، في نتيجة سابعة، تغيير العملة لوقف العجز التجاري والتضخم، و هي مداخل للنّجاح الاقتصادي.
ولا يمكن إنهاء هذه النتائج من دون ذكر المتصلة بتوازي النجاحات السابقة مع الوجه الخارجي الدولي للمشروع الانبعاثي، حيث، في نتيجة ثامنة، هناك منطق في العلاقات الدولية التي لا تحترم إلا التوازن، المبادرة والقوة وتلازم ذلك مع واقعية البحث عن المصلحة دوما، وهو المقاربة التي عمل أردوغان على تجسيدها في المجال الدولي. وقد أدى ذلك، في نتيجة تاسعة، إلى رفع تركيا إلى مصاف القوى الإقليمية العظمى، المنخرطة في معادلات الإقليم الشرق أوسطي، إلى جانب إيران وإسرائيل وبقوّة.
وينتهي الإلهام التركي للوعي العربي، وهي النتيجة العاشرة، بالتأكيد على أن المشروع المتكامل لبناء الدولة وتجسيد الوعي الحضاري يتقاطع مع مشروع تبوُّؤ مكانة إقليمية ودولية. وكلا المشروعين واقعيان، وقد أكدت تركيا أنهما قابلان للتجسيد، داحضين بذلك الحجج العربية، لإدامة الاستعصاء عن التغيير في العالم العربي.
وفي الختام، لم يكن شعار "عيش، كرامة، عدالة اجتماعية" خياليا، بل مطلب واقعي، وصل الأتراك إلى تجسيده واقعا من دون الحاجة لثورة مضادة، بل اتخذت تلك المطالب، للتصالح بين الشعب والدولة، ولصنع نهضة تركيا الحديثة، وبعث "العثمانية الجديدة" منطلقا لتبوّؤ مكانة القوة الإقليمية التي يحسب لها ألف حساب، ولتكون، بذاك، الجواب الحقيقي لكذب منطق التسلّطية العربية.
يتساوى، يقول الأتراك، المواطن والدولة في إطار مشروع الانبعاث. ولا يمكن بناء الدولة بغلق المجال أمام طموحات المواطن في الحرية والانعتاق. إنها وصفة العلاج لمرض الاستبداد وطبائعه في عالم عربي ما زال يجرّ ويلات عقاب المواطن.
يستند الاستعصاء الذي تتّصف به الدّول في العالم العربي عن التّغيير إلى غياب الشرعيّات الحقيقيّة المستمدّة من الشّعب السيّد، ويمارس سلطته/ تسلّطه من خلال تلك النّخب، وتلك الشرعيّات التي استحدثها، وهو ما يمكنّه، على الدّوام، منذ موجة الاستقلال، من البقاء والتجدّد، بعيدا عن مبدأي تجديد النخب ودورانها، من ناحية، والتداول على السلطة، من ناحية أخرى. وقد استحدث، أيضا، للبقاء، حججا عديدة، لعلّ أهمها أن مغامرة التّغيير قد تأتي بما يمكن
تعتمد التسلّطية على أدوات ليّنة، وأخرى صلبة، لتستمدّ منها قواها وتمتدّ في الزّمن. من الأدوات الصّلبة، أساسا، حالة الطوارئ وما يستتبعها من التّضييق على الحريّات بشتّى أنواع التّضييق. أمّا الأدوات اللّينة فمنها الديمقراطية الصورية، ومحورها وسيلتان: حرية التعبير وشراء السلم الاجتماعي، إلى جانب التعددية الحزبية التي من أبين صور عملها النضالي الولاء لبرامج الحاكمين والإعلان، جهارا، أنها لا تطمح إلى الوصول إلى الحكم، بل المشاركة للمشاركة. وفي سبيل ذلك تؤكّد، دوما، أنها غير معنيّة بالرّئاسيات (الحكم)، بل همّها الّتشريعيات والمحليات ومزايا السّلطة التي تتحالف معها، كونها صنيعة التسلّطية، ومن أدوات دوامها/ إدامتها.
من نتائج هذه التسلّطية ثنائية أصبحت، الآن، مرادفةً للعالم العربي، أينما ذكر في الإعلام أو في التّقارير الدّولية، وهي ثنائية الفشل في بناء الدولة وفشل في خيار النّموذج الاقتصادي، وكلاهما هيكلي وليس ظرفيا، ليكون من ثمار ذلك تذيّل للمؤشرات أيّا كانت، سواء السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية أو العلمية- الثقافية- التربوية. وربما تكون هذه الصّورة قاتمة، لكنّها تعكس الحقيقة كاملة لوصف التسلّطية وحججها في منع الوعي، خصوصا أنها حجج بقيت هي نفسها، وإنْ تتلوّن بلون الوقـت، وتلبس لكل حدث وظرف لبوسه الذي يليق به، لكن النّتيجة واحدة: التّهديد هو التسلطية وليس التهديدات/ المخاطر الخارجية والداخلية، على حدّ سواء.
ولم يعرف الحكّام العرب أن ثمّة عالماً آخر، يمكن أن يبتكر مقاربة عكسية للحفاظ على الأمن القومي، ودرء التهديدات/ المخاطر التي تحدق به بعيدا عن التسلّطية والثّورات المضادّة، بل وبعيدا، أيضا، عن الفشل أيّا كانت طبيعته. كما لم يعرفوا أن ثمة مقاربات أخرى، تحافظ على الأمن القومي، بالحفاظ على خيار الشعب والعمل لإنتاج سياسة عامة، كفيلة برفع صورة البلد، بناء مشروع للقوة بكل أبعادها.
تركيا فعلت هذا، ويبدو أنها لم تدحض الحجج العربية لإدامة التسلطية فقط، بل أعطت العرب درسا بأن ثمة طريقا آخر نحو التغيير، يمر عبر خيارات سديدة، منطقية وبراغماتية، تنتهي كلها إلى مشروع النهضة الحقيقية. وتركيا انطلقت من الظروف نفسها، حيث كانت تعاني من المعضلة نفسها التي دامت معها منذ سقوط الخلافة العثمانية. وكان باديا عليها مرض الاستبداد نفسه، بأعراضه وتداعياته. وقد أدّى ذلك المرض بتركيا إلى أن تصبح ذيلا في كل المؤشرات، على الرغم من السماح لها بالعضوية في حلف شمال الأطلسي، وكانت ذريعة الاستبداد مانعا لها في طريق اكتساب عضوية السوق الأوروبية المشتركة الذي أصبح فيما بعد اتحادا أوروبيا، بفيتو يوناني، ثم فرنسي - ألماني مشترك.
أخذ الضّعف بتركيا، في نهاية التسعينيات، كل مأخذ، حيث شارفت على الإفلاس. وعندها اهتدت إلى سلسلة من الإجراءات الحيوية، استهلّتها باتّفاق مجتمعي لإعادة النظر في الوضع العام للبلاد رأسا على عقب، ثمّ تبنّي دستور نظّم العلاقة بين الجيش والسياسة، وانتهاء برسم سياسة انبعاث استراتيجية واقتصادية، في المقام الأول، وصلت بها إلى ما نراه الآن: قفزة من العدم، من المرتبة 88 تقريبا في الاقتصاد العالمي، إلى الاقتصادات الـــ15 الأولى، ناتج قومي خام مضاعف 4.5 مرات، دخل فردي مضاعف أربع مرات، صادرات مضاعفة خمس مرات، صناعات دفاعية وفضائية، تحسّن في قطاعات الصحة والتربية والتعليم، عدد مهول من الجامعات ومراكز البحث.. إلخ.
ولم تخرج تركيا عن الاتفاق المجتمعي المنعقد لتنظيم شؤون الحكم في نهاية تسعينيات القرن الماضي، على الرّغم من التحوّلات العميقة في المعادلة الإقليمية، بعد غزو العراق عام 2003، أو في أعقاب ثورات "الربيع العربي"، وخصوصا في جوارها المباشر، سورية. كان ممكنا للعسكريين أو للسياسيين المستحوذين على الحكم التراجع عن تلك المكاسب، لصنع مشهد سياسي جديد، بمرجعية التهديدات/ المخاطر، لكن الأتراك أثبتوا أن تلك التحولات سبب وجيه للإبقاء على تلك المشاهد السياسية، خصوصا أنها أنتجت مكاسب عظيمة، ومنها تغير رؤية الغرب لتركيا، باعتبارها لاعبا كبيرا في مسائل كثيرة، اقتصادية، سياسية وأمنية –عسكرية.
ووفّرت التجربة التركية مرجعية أكيدة لإمكانية تعايش الديمقراطية مع إقليم مضطرب، أو في ظل تحولات عميقة في الجوارين، المباشر والإقليمي، حيث أن المواطن والدولة يصبحان لاعبين متلازمين، ليس لأحد الأولوية على الآخر، كما لا يمكن تغييب أحدهما (المواطن) من أجل الحفاظ على الدولة، كما تجري المحاججة به في العالم العربي منذ عقود.
لماذا يبقى العالم العربي الاستثناء الوحيد في العالم بالنسبة لإقامة الديمقراطية، بل في مجالات كثيرة متّصلة بحريّة الإنسان، حقوق المرأة، تردّي التّربية والتّعليم، إضافة إلى تصنيفاتٍ تضع العرب في ذيل التّرتيبات العالمية على كل المستويات، وفي كلّ المجالات؟. بالتعمّق في الدّرس التركي للعالم العربي، في هذا المجال، الديمقراطية وتلازمها مع بناء القوة الذاتية، يمكن التوصّل إلى جملة نتائج، أولاها متّصلة بأن الفشل، تشخيصا وعلاجا، يحتاج للاعتراف به مقدّمةً لصنع الانبعاث والوثبة نحو الأمام، في حين أنّ النتيجة الأخرى متعلّقة باتخاذ أسباب الانبعاث من تحضير أرضيّة للااتفاق المجتمعي، ثم توفير سبل نجاحه من فتح المجال لتجديد النّخب، ودوران تكوينات المجتمع برمته (مجتمع مدني، أحزاب، شخصيات/ كفاءات وطنية)، للقيام بتلك المهام الحيوية في إصلاح الدولة، أي توفير المكان للكفاءة في كل المجالات.
احتاج المشروع لتجسيده، في النتيجة الثالثة للدرس التركي، إلى نص قانوني، الدستور وإجرائية ديمقراطية، أساسها الانتخابات، لتمكين الخيار السيد للشعب، مع تأكيد التوصل إلى اتفاق
ولا يمكن إنهاء هذه النتائج من دون ذكر المتصلة بتوازي النجاحات السابقة مع الوجه الخارجي الدولي للمشروع الانبعاثي، حيث، في نتيجة ثامنة، هناك منطق في العلاقات الدولية التي لا تحترم إلا التوازن، المبادرة والقوة وتلازم ذلك مع واقعية البحث عن المصلحة دوما، وهو المقاربة التي عمل أردوغان على تجسيدها في المجال الدولي. وقد أدى ذلك، في نتيجة تاسعة، إلى رفع تركيا إلى مصاف القوى الإقليمية العظمى، المنخرطة في معادلات الإقليم الشرق أوسطي، إلى جانب إيران وإسرائيل وبقوّة.
وينتهي الإلهام التركي للوعي العربي، وهي النتيجة العاشرة، بالتأكيد على أن المشروع المتكامل لبناء الدولة وتجسيد الوعي الحضاري يتقاطع مع مشروع تبوُّؤ مكانة إقليمية ودولية. وكلا المشروعين واقعيان، وقد أكدت تركيا أنهما قابلان للتجسيد، داحضين بذلك الحجج العربية، لإدامة الاستعصاء عن التغيير في العالم العربي.
وفي الختام، لم يكن شعار "عيش، كرامة، عدالة اجتماعية" خياليا، بل مطلب واقعي، وصل الأتراك إلى تجسيده واقعا من دون الحاجة لثورة مضادة، بل اتخذت تلك المطالب، للتصالح بين الشعب والدولة، ولصنع نهضة تركيا الحديثة، وبعث "العثمانية الجديدة" منطلقا لتبوّؤ مكانة القوة الإقليمية التي يحسب لها ألف حساب، ولتكون، بذاك، الجواب الحقيقي لكذب منطق التسلّطية العربية.
يتساوى، يقول الأتراك، المواطن والدولة في إطار مشروع الانبعاث. ولا يمكن بناء الدولة بغلق المجال أمام طموحات المواطن في الحرية والانعتاق. إنها وصفة العلاج لمرض الاستبداد وطبائعه في عالم عربي ما زال يجرّ ويلات عقاب المواطن.