دروس "جمعة الأرض" في مصر

19 ابريل 2016
+ الخط -
نجح الجنرال عبد الفتاح السيسي، من حيث لا يدري، في إعادة الناس إلى الشارع. خرج الآلاف في "جمعة الأرض" للتظاهر، ليس فقط احتجاجاً على مسألة جزيرتي تيران وصنافير، وإنما على الحالة البائسة التي بدا عليها الجنرال، حين ألقى خطابه المثير للتهكم والسخرية قبل حوالي أسبوع، لتبرير انفراده بتقرير مصير الجزيرتين، من دون إشراك للمجتمع وقواه في أي نقاشٍ حول المسألة. أعاد الجنرال "روح يناير" إلى الشارع المصري، بعد أن ظن بعضهم أنها ماتت وقُبرت مع انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013. وكان في خروج المتظاهرين يوم الخامس عشر من إبريل/نيسان الجاري سبعة دروس مهمة، لا يجب أن نتجاهلها.
أولها، لم يكن التظاهر ضد توقيع السيسي لاتفاق تسليم جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وهو الاتفاق الذي لم يعلم عنه أحد شيء باعتراف السيسي نفسه، بقدر ما كان ضد السيسي، بشخصه ونظامه وسياساته، وهو ما عكسته الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وأهمها الشعار الشهير "ارحل"، والذي طغى على شبكات التواصل الاجتماعي بعد ساعات قليلة من خطاب السيسي "الكارثي" الذي ألقاه الخميس الماضي، وهو ما ترجمته صيحات المتظاهرين وصرخاتهم، وعكس شعوراً عميقا بالمرارة والغضب من السيسي ونظامه.
ثانيها، لم يدع إلى المظاهرات فصيل سياسي أو إيديولوجي بعينه، وإنما جاءت بمبادرة شعبية تعكس حجم السخط والرفض للسيسي وسياساته. لذا، لم يرفع أحد شعارات أيديولوجية أو فكرية معينة، وإنما شعارات وطنية عابرة للأيديولوجيات والحركات. حتي جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنت مشاركتها في التظاهرات لم تخرج عن النص، وتطالب بعودة محمد مرسي أو بالشرعية، على الرغم من أن قرارها المشاركة قوبل بتحفظات من بعض القوى السياسية.
ثالثها، سقط الحديث المكرّر حول صعوبة الاصطفاف والتوحد في وجه السلطوية العسكرية، ووضحت تهافته، فقد حدث الاصطفاف تلقائياً، عندما اجتمع المتظاهرون والغاضبون على قضيةٍ مركزيةٍ، تتجاوز الأهداف والمصالح الفئوية الضيقة. وفي ذلك درس مهم لكل القوى السياسية المتضررة من الانقلاب، والرافضة لإعادة بناء السلطوية في مصر في أن تقترب من الشارع ومن الناس وقضاياهم، بعيداً عن التحزّب والتخندق الأيديولوجي والفكري. بل الأكثر من ذلك أن الشارع أرسل رسالة مهمة لكل القوى السياسية، مفادها أنه لا يزال حياً وموجوداً، وفي وسعه أن يتجاوز أطروحات هذه القوى، وأن الأفضل لها أن تترك خلافاتها البينية، وتركّز على القضايا المصيرية التي تهم الوطن.

رابعها، التظاهر، بحد ذاته، انتصار مهم في معركة استعادة المجال السياسي الذي قام السيسي بتأميمه بعد انقلاب يوليو، من خلال "قانون منع التظاهر" المعيب. فقد خرج الآلاف إلى الشوارع متحدّين القانون، ومعلنين إسقاطه بالأمر الواقع. ولم تجرؤ السلطة على وقف التظاهر أو قمعه، كما جرت العادة مع المظاهرات الأخرى، سواء التي تنظمها جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من القوى السياسية. وهنا درس مهم بأنه كلما خرج الناس للتظاهر بكثافة، ومن مختلف التوجهات، لن تستطيع السلطة إيقافهم، وإلا تحوّل الأمر إلى مواجهة حقيقية، تخشى السلطة من عواقبها. ولعل رجال السيسي قد تعلموا الدرس من حسني مبارك، ولم ينجرفوا باتجاه استخدام القوة ضد المتظاهرين.
خامسها، يبدو أن ثمة أطرافاً داخل النظام ترفض ما قام به السيسي، وأن ثمة استياءً عاماً داخل بعض المؤسسات السيادية تجاه أداء الرجل. لذا، لم نشهد قمعاً سلطوياً كبيراً، أو ممانعة من هذه المؤسسات في مسألة التظاهر ضد السيسي. بل على العكس، يبدو أن ثمة ترحيباً خفياً بالمظاهرات، دلّ عليه صمت هذه المؤسسات، وعدم دخولها طرفاً في الصراع، خصوصاً بعد أن قام السيسي بتوريطها في خطابه، حين أعلن أن المخابرات ووزارتي الدفاع والخارجية شركاء في مسألة "صنافير وتيران". بل ثمة تقارير صادرة عن مراكز استخبارات وبحوث أميركية تشير إلى أن هناك تململاً، إن لم يكن رفضاً، داخل المؤسسة العسكرية لتصرف السيسي، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة نصح السيسي بعدم التنازل عن الجزيرتين.
سادسها، أن فزّاعة "الإخوان المسلمين" التي يستخدمها النظام وإعلامه دائماً لتخويف القوى السياسية، ومنعها من التظاهر، سقطت وانتهت، فعلى الرغم من إعلان "الإخوان" المشاركة في التظاهرات، إلا أن ذلك لم يمنع بقية الأطراف، المنظمة وغير المنظمة، من الخروج والتظاهر ضد النظام. وهو أمر مهم لكسر حالة الاستقطاب الذي كان النظام يستفيد منها، ويغذّيها باستمرار على طريقة "فرّق..تسد". ولعل ذلك يمثل بداية جيدة، يجب البناء عليها، من أجل ترميم العلاقة بين "الإخوان" وغيرها من القوى السياسية.
سابعها، وأهمها، أن التظاهر كتب "شهادة وفاة" لقوى ورموز سياسية كثيرة، كانت محسوبة يوماً على المعارضة، لكنها لم تدع ولم تشارك في التظاهرات ضد السيسي. وهو ما يمهّد الأرض لظهور فاعلين ولاعبين سياسيين جدد، أكثر ارتباطاً بالمجتمع وهمومه وقضاياه. وهنا، يجدر بالقوى السياسية التي شاركت في "جمعة الأرض" أن تشكل لجنةً تنسيقيةً فيما بينها، من أجل تبني استراتيجية واضحة للضغط على النظام، ولربما تتطور هذه اللجنة، لاحقاً، كي تصبح كياناً سياسياً جديداً، يتجاوز الأيديولوجيا والمصالح الضيقة، مثلما حدث مع حركة "6 إبريل" التي ولدت في ظروف مشابهة قبل حوالي ثمانية أعوام.
باختصار، ما حدث في الخامس عشر من إبريل الجاري كسّر حالة "العجز السياسي" التي حاول نظام السيسي فرضها على المجتمع، طوال العامين ونصف الماضيين. وهو وضع يجب استثماره والبناء عليه، من أجل الضغط على هذا النظام، ليس فقط لوقف سياساته القمعية والعدوانية تجاه الجميع، وإنما أيضاً لإخراجه من السلطة، وهو ما يجب أن يتقدّم مطالب المظاهرات المقبلة المقرّرة في 25 إبريل.



A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".