تُعدّ مدينة درنة الساحلية، الواقعة في الشرق الليبي، صغيرة نسبياً مقارنة بباقي المدن، من حيث المساحة وعدد السكان. كونها تنحصر بين سلسلة جبال، والبحر الأبيض المتوسط في شريط ضيّق، لا يتجاوز طوله الـ20 كيلومتراً، ولا يتجاوز عدد سكانها الـ100 ألف نسمة.
تعرضت المدينة لتهميش خاص من بداية سبعينيات القرن الماضي، بسبب تظاهرة قامت ضد ثكنة عسكرية في المدينة، تابعة للعقيد معمّر القذافي. استمرت رحلة التهميش الطويلة حتى باتت المدينة خالية من أي أنشطة اقتصادية تستوعب طاقات الشباب، وانهارت بنيتها التحتية مع السنين، وانتشرت فيها العشوائيات بسبب الفقر، إلا أنها تميزت بنشاط ثقافي أصبحت بسببه رقماً صعباً في ليبيا.
بعد ثورة فبراير/شباط 2011 شارك شباب درنة في كل المعارك الميدانية بمدن شرق وغرب ليبيا، وكان لهم دور بارز في 19 مارس/آذار من عام 2011 الذي حاولت فيه قوات نظام القذافي دخول مدينة بنغازي. وتشكّلت فيها في أيام ثورة فبراير/شباط الأولى، كتيبة "شهداء أبو سليم"، التي كان لها دور بارز في جبهات المنطقة الشرقية، حتى تحرير مدينة سرت، وسط ليبيا.
وتخلو المدينة من أي مظهر أمني تابع للدولة، سواء من شرطة أو بحث جنائي أو شرطة مرور، أو قوات تابعة لرئاسة الأركان العامة الليبية في شكل وحدات أو معسكرات.
وتتقاسم السيطرة الأمنية بالمدينة كتيبتان مسلحتان في المدينة، الأولى "كتيبة شهداء أبو سليم"، المكوّنة من إسلاميين يقومون بدور في تأمين المدينة والتصدي لمحاولات طائرات اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمضادات أرضية، كذلك تعمل على تأمين وصول النقود للمصارف في المدينة، تحسباً للسطو عليها من مجموعات إجرامية.
أما الكتيبة الأخرى، فهي المعروفة بـ "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة"، وهي خليط من مجموعات عدة، كبعض أفراد تنظيم "أنصار الشريعة"، ولعائدين من ساحات القتال في سورية والعراق ومالي والجزائر. وأنشأت الكتيبة هيئة للتحكيم بين الناس تحت مسمى "المحكمة الإسلامية" في مقرّ المجلس المحلي درنة السابق، على مدخل المدينة، منذ نحو ستة أشهر.
بعدها، استولت "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة" على مقرات عدّة في المدينة، بعد أن دعت إلى مبايعة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بقيادة أبو بكر البغدادي، تحت شعار "مداد الأيادي لبيعة البغدادي"، وذلك في 31 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وعمدت إلى تسمية مقرّ الحركة الكشفية بدرنة، باسم "ديوان التعليم الشرعي".
كما أنشأت مقراً للشرطة الإسلامية على مدخل المدينة الغربي، والذي كان مقراً سابقاً لشركة "الجبل الأخضر"، وتملك سيارات عليها شعار الشرطة الإسلامية، تقوم بدوريات في المدينة، تستهدف فيها متعاطي المخدرات وشاربي الخمور. وتقوم الدوريات بتطبيق "حدّ الجلد" على شاربي الخمر بأماكن تجمعات عامة. كما تملك "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة"، سجناً تحت مقرّ المحكمة الإسلامية.
ولا ترى مجموعة "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة" خطأً في ضمّ أجانب إلى صفوفها، فيتولى شؤون القضاء لديها قاضٍ يمني، وشؤون الولاية حسب مصطلحاتهم والٍ سعودي. كما ألقت الاستخبارات السودانية القبض في وقت سابق على مصري كان ملتحقاً بالمجموعة، واعترف بحسب مصادر مطلعة بأنه تابع للاستخبارات العامة المصرية. كما أُفيد عن وجود عدد من العناصر الأجنبية في درنة، التابعين لأجهزة استخبارات عربية عدة.
ودخلت "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة" في صراعٍ مسلّح مع "كتيبة شهداء أبو سليم" بسبب اتهام الأخيرة بـ "الكفر وعدم التوبة من قيام كتيبة شهداء أبو سليم، بحماية وتأمين زيارة سابقة للمستشار مصطفى عبد الجليل، بزيارة المدينة بداية ثورة فبراير/شباط".
واتهمت "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة"، الكتيبة بحماية صناديق انتخابات "المؤتمر الوطني العام" (البرلمان السابق) في يوليو/تموز من عام 2012، وتوقيع عقود الانتساب إلى اللجنة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية إبان حكومة عبد الرحيم الكيب، إذ رفضت الكتيبة "إعلان التوبة" والدخول ضمن مجموعة "مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة"، مما دعا الأخيرة إلى استهداف بعض قيادات الكتيبة بالاغتيال، وتحديداً محمد أبو بلال، وتفجير منازل بعض المنتسبين بالكتيبة.
ونجم عن هذه العمليات التي قامت بها "مجموعة مجلس شورى شباب الإسلام بدرنة" اشتعال حرب بينها وبين "كتيبة شهداء أبو سليم"، بالقتل والاغتيال المتبادل، لم تهدأ إلا بعد التهديدات الأخيرة التي أعلنها اللواء سليمان محمود أحد مؤيدي "عملية الكرامة" بتجهيز قوات، قال عنها إنها من الجيش الليبي والتحضير للدخول إلى مدينة درنة.
تحاول وسائل إعلامية محلية وعربية عدة، ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وسياسيون مؤيدون لـ "عملية الكرامة"، إثارة تحريض شباب المناطق المحيطة بمدينة درنة، والتي تقطن غالبيتها قبيلة العبيدات كمناطق عين مارة والقبة والأبرق والقيبقب غربي درنة، ومناطق مرتوبة، وأم الرزم والتميمي ومدينة طبرق شرقي درنة، وإغراءهم بالدخول للمدينة مسلّحين ومواجهة الجماعات الإسلامية بالمدينة. إذ إنه وبحسب خبراء عسكريين، لا تملك القيادة العسكرية لـ "عملية الكرامة"، القوات الكافية للدخول إلى المدينة، على الأقلّ من ثلاثة محاور، مُسيطر عليها من قبل جماعات درنة.
ويشير الخبراء العسكريون، إلى أن "هذا الأسلوب اتبعته عملية الكرامة فيما يتعلق بحربها على بنغازي، إذ استغلت الدعاية السوداء ضد الجماعات الإسلامية، لتحريض ما اُصطلح على تسميته لاحقاً بالصحوات، ليكونوا وقود الحرب، وشجعت حكومة عبد الله الثني المنبثقة عن مجلس النواب المنحل هذا الأسلوب من العمل المسلح عبر بيانات، دعت فيها المواطنين للقتال إلى جانب ما أسمتهم القيادة العامة للجيش الليبي".
ويعتقد خبراء بشؤون الجماعات الإسلامية أن "مدينة درنة عموماً وباقي المدن التي تنتشر فيها جماعات إسلامية رافضة لمنطق التداول السلمي على السلطة وأدبيات الدولة الحديثة، تحتاج إلى مقاربات عدة، منها الاقتصادي وتحريك دورة وعجلة الحياة للخروج من حالة البطالة المقنعة والركود وتحسين الدخل وتحسين مستوى الخدمات العامة شبه المنهار منذ سنوات".
وأكدوا على ضرورة تأمين "مقاربة سياسية تقوم على التحاور المستمر مع هذه الجماعات من قبل شخصيات موثوق فيها، وتحقيق بعض برامج التنمية العاجلة والمشاركة، وإلى مقاربة فكرية تقوم على الدخول في نقاشات مطولة عبر شخصيات دينية موثوق في علمها ودينها، وإلى مقاربة اجتماعية تقوم على تفهم عقلاء المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني لطبيعة وجوهر المشكلة والتواصل المستمر معهم، وفي الأخير المقاربة الأمنية كحل نهائي للرافضين لأية حلول للمشكلة".
ويرون أن "الاعتماد الحالي على المقاربة الأمنية كحل أحادي ومفرد سيعمق من طبيعة المشكلة، وسيدخل عناصر جديدة تتعاطف مع هذه الجماعات، وستكون نتيجته الحتمية الدمار واستنزاف مقدرات الدولة في حرب أثبتت التجارب الحديثة بالعراق والصومال وأفغانستان عقمها النهائي".
هذا وقد نزحت عائلات قدّرتها بعض المصادر بـ "الكثيرة"، من دون تقديم إحصائية كاملة، إلى مدن الجبل الأخضر غربي درنة، وبعض المناطق المحيطة بها بسبب التهديدات بدخول مسلحين للمدينة، مع تكثيف الطيران الحربي التابع لحفتر هجماته على مواقع بمدخل المدينة الغربي، ومواقع جبلية أخرى قريبة من المدينة، مما تسبب في حالة ذعر بين السكان وأجبرهم على النزوح.