تدل وقائع عسكرية وميدانية على أن النظام السوري يستعدّ لشن عمل عسكري واسع النطاق على محافظة درعا في جنوب سورية، التي لم تهدأ أوضاعها على الرغم من إبرام اتفاقات تسوية مع النظام برعاية روسية منتصف عام 2018، أرادها النظام مدخلاً واسعاً لمواصلة الفتك بالمحافظة التي كانت مهد الثورة السورية، في ظل تراخي الضامن الروسي عن تحمّل مسؤولياته بالحد من تجاوزات قوات النظام وأجهزته الأمنية بحق أهالي المحافظة. كما أن الاتفاق لم يحل دون استمرار الجانب الإيراني في تعزيز وجوده في الجنوب السوري، عبر "حزب الله" ومليشيات محلية مدعومة من طهران، إضافة إلى أن النظام لم يفِ بالتزاماته لجهة إنهاء ملف المعتقلين والمغيبين، بل اعتقل مئات آخرين بعد سريان الاتفاق، وعذّبهم حتى الموت في معتقلاته. ما جعل الجنوب السوري قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، في ظل رفض من تبقّى من مقاتلي فصائل المعارضة محاولات إخضاعهم.
وفي أحدث تطورٍ عسكري يشي أن الأوضاع في محافظة درعا تتجه إلى تصعيد غير مسبوق منذ نحو عامين، بدأت قوات النظام منذ أول من أمس الأربعاء تعزيز مواقعها في بلدة المزيريب في ريف درعا الغربي، مستغلة حادث مقتل تسعة عناصر من الشرطة التابعين للنظام في البلدة المذكورة، فيما تؤكد فصائل المعارضة السورية أن ما جرى لا يعدو كونه حادثاً جنائياً بحتاً يتذرع به النظام لاقتحام المحافظة برمتها.
وجاء مقتل عناصر النظام، وفق ما نقلته مصادر من المنطقة لـ"العربي الجديد"، بعد مقتل الشابين شجاع قاسم الصبيحي، ومحمد أحمد موسى الصبيحي، اللذين كانا يعملان سابقاً ضمن فصيل محلي مسلح، قبل خضوعهما لاتفاق التسوية والمصالحة، إذ اختطفا، ومن ثم وُجدت جثتاهما على طريق جعيلة إبطع في الريف الأوسط من المحافظة. وأضافت المصادر، أن القيادي محمد قاسم الصبيحي اتهم قوات النظام بالوقوف وراء مقتل الشابين وأحدهما ابنه، وقام بالهجوم على مركز المنطقة كعملية انتقام لمقتل الشابين، مشيرة إلى أن الصبيحي ما زال متوارياً عن الأنظار ووجهاء بلدة المزيريب يؤكدون عدم معرفتهم بمكان اختفائه.
ووفق مصادر محلية، استقدمت قوات النظام تعزيزات من "الفرقة الرابعة" التي يقودها ماهر الأسد، انتشرت في ريفي درعا الشرقي والغربي، ومن "الفرقة التاسعة" انتشرت في تل الخضر وحاجز التابلين ومنشأة تميم بدر في محيط اليادودة. وبيّنت المصادر أن أغلب المليشيات التي زُج بها في المحافظة تابعة أو مدعومة من الجانب الإيراني، لافتة إلى أن ضباطاً يتبعون ماهر الأسد شقيق رئيس النظام بشار الأسد يقودون هذه التعزيزات.
ويبدو واضحاً أن النظام يبحث عن ذريعة ما لاقتحام محافظة درعا التي كانت مهداً للثورة السورية، قبل أن تُبرم "اتفاقات مصالحة" مع النظام برعاية روسية منتصف عام 2018، تبين لاحقاً أنها بلا قيمة على الأرض، وأنها كانت مجرد مدخل للفتك بأبناء المحافظة، تحديداً قادة فصائل المعارضة الذين اختاروا البقاء على النزوح إلى الشمال السوري.
وفي خطوة تؤكد خشية سكان المحافظة من عملية عسكرية وشيكة من قبل قوات النظام، شهدت مناطق عدة في محافظة درعا ليل الأربعاء- الخميس، احتجاجاً على التعزيزات العسكرية التي يقوم بها النظام في الجنوب السوري. ونشرت مواقع محلية، منها "تجمع أحرار حوران" لقطات مصورة لمشاركة العشرات من الأهالي في مدينة طفس غربي درعا، بتظاهرة رفعوا فيها شعارات تستنكر التوغل الإيراني في المنطقة الجنوبية، بعد تعزيزات جديدة وصلت إلى المنطقة، بينها آليات ثقيلة ومدافع انتشرت في محيط المدينة.
كما شارك مئات الشبان في تظاهرة حاشدة في ساحة المسجد العمري في حي درعا البلد في مدينة درعا مركز المحافظة، تنديداً باستقدام تعزيزات جديدة لقوات النظام والمليشيات الإيرانية إلى ريف درعا الغربي. وحسب "تجمّع أحرار حوران" فإن المعطيات والمعلومات المتوفرة "تشير إلى أن إيران هي من تقف خلف هذه التعزيزات، لا سيما أنّها تسيطر فعلياً على الفرقتين التاسعة والرابعة، وهي المستفيد الوحيد من عملية الاقتحام، بعد أن هيّأت المناخ المناسب لها". وأشار إلى "أن اللجنة المركزية في درعا عقدت قبل أيام لقاءات مع رئيس فرع الأمن العسكري في المنطقة الجنوبية العميد لؤي العلي، الذي عبّر عن رفضه لاقتحام المنطقة بحسب بعض الحضور، فيما انتشرت أنباء على لسان العلي بأنّ العملية العسكرية المرتقبة في الجنوب جاءت بقرار من القيادة، وليس بالإمكان إيقافها".
وفي السياق، أصدرت فعاليات أهلية في درعا أول من أمس الأربعاء، بياناً أكدت فيه رفضها "كل أعمال القتل والاغتيال والخطف مهما كان مصدرها"، لافتة في الوقت نفسه إلى أنها ترفض "استقدام الجيش وانتشاره خارج ثكناته بغية الترهيب والتهديد وخلق أعمال عدائية". وحذرت الفعاليات "كل من يهدد ويتوعد باقتحام الجنوب"، مضيفة: "أن القرارات ذات التبعية الحاقدة التي تنفذها أجندات طائفية سيئة الصيت، ونخص بذلك المليشيات الإيرانية ومن يدور في فلكها، لن تجد لمبرراتها وحججها الواهية سبيلاً للسيطرة على الجنوب وزعزعة أمنه واستقراره وتمزيق نسيجه الاجتماعي بإثارة الفتن والنزاعات". ووقّع البيان كل من: مجلس عشيرة درعا وأعيانها، ولجنة درعا البلد، واللجنة المركزية بالمنطقة الغربية، وعشائر وأعيان منطقة الجيدور، وعشائر وأعيان المنطقة الشرقية.
من جانبه، أكد أدهم الكراد، وهو قيادي بارز في فصائل المعارضة في درعا، أن قوات النظام استقدت تعزيزات على محيط المنطقة الغربية من درعا، مضيفاً في منشور على صفحته على "فيسبوك": "يقولون إنها عملية أمنية وبعد رصد الآليات والمدافع والعتاد الثقيل نقول هذه عملية اجتياح عسكرية بحجج كاذبة وواهية". وتابع: "عملية مقتل عناصر الشرطة التسعة (في إشارة إلى حادثة المزيريب) هي ذريعة لأجل كسر أنف الجنوب، فلا تزال العقلية العسكرية والمستبدة متجذرة لدى أصحاب القرار وأي تفاوض مبني على الابتزاز والضغط العسكري هو تفاوض مرفوض". وطالب الكراد الجانب الروسي يتحمّل مسؤولياته إزاء اتفاق التسوية الذي عقد في منتصف عام 2018، معتبراً ما حدث في المزيريب "فعلاً انتقامياً له بعد جنائي لا يجوز للطرف الآخر تجييره لتحقيق أهدافه". كما طالب بحل الملفات كافة وفق اتفاق التسوية وفي مقدمتها ملف المعتقلين والمغيبين منذ عام 2011، وملف العسكريين المنشقين عن قوات النظام، وملف 75 شاباً مطلوبين للخدمة في هذه القوات. وأضاف: "نحن لا نسعى لسفك الدماء، ولكن إن فُرضت علينا الحرب نحن لها ولكننا لا نريدها".
وقالت مصادر محلية لـ "العربي الجديد" إن ما يجري الآن في درعا يأتي تتويجاً لعامين من محاولات النظام والإيرانيين إخضاع المحافظة، من خلال عمليات الاغتيال والاعتقال بحق شخصيات مدنية وعسكرية معارضة لها دور في التوصّل لهذه الاتفاقيات، التي مكّنت النظام والجانب الروسي من استعادة السيطرة على كامل الجنوب السوري من دون عمليات عسكرية. وأشارت المصادر إلى أن النظام "كرّس سياسة الفوضى في المحافظة في خطوة انتقامية"، مضيفة: من دون إطلاق المعتقلين وكف يد أجهزة النظام الأمنية لن تشهد محافظة درعا أي هدوء.
ووفق المصادر "سمح النظام للمليشيات الإيرانية بالتوسّع في المحافظة الحدودية مع الأردن وفلسطين المحتلة، لتحويل المحافظة إلى منطقة نفوذ إيراني بشكل كامل"، ونوّهت إلى أنه سبب رئيسي للاحتقان المتزايد في الجنوب السوري. ولفتت المصادر إلى أنّ المليشيات الإيرانية تتخذ من مقرات قوات النظام مراكز لها، خصوصاً في منطقة إزرع، حيث الفرقة الخامسة لقوات النظام، إضافة إلى المثلث الذي يربط بين محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق، لافتة إلى أنّ هذه المليشيات أقامت العديد من مراكز التدريب هناك.