خصصت صحيفة "رقم 1" الأسبوعية، في عددها الثامن، ملفا لافتاً عن الحرب في سورية وانعكاسات التقلبات السياسية في عموم منطقة الشرق الاوسط على دول المنطقة بأسرها وفي مقدمتها أوروبا. وبالنظر لأهمية الملف، ترجم "العربي الجديد" أبرز ما ورد في مساهمة قيمة من الباحثة هيلين ثيوليت، وهي مُدرّسة في العلوم السياسية، وباحثة في مركز الدراسات والأبحاث الدولية (CERI)، ومتخصصة في الهجرات الدولية. وهنا ترجمة ما ورد في هذا الملف:
الربيع العربي جرّ أزمات هجرة مُعقَّدَة
"يرتبط الربيع العربي بحالات لجوء ومنفى سابقة (المواطنون الفلسطينيون والعراقيون، بشكل خاص)، وله تأثير على حالات الهجرة في بلدان توجد في "حالة ثورة". ويُولِّد الصراعُ الحالي في سورية ترحيلاً وتهجيراً داخلياً، في الوقت الذي كان فيه هذا البلد يستقبل نسبة كبيرة من اللاجئين العراقيين.
إن حركات المنفى في سورية، كما في اليمن أو في ليبيا، تَخلِطُ بين لاجئين غادَروا مناطق صراع في بلدانهم الأصلية، ومُواطِني بلدان ثالثة أُرْغِموا بصورة فظة على الرحيل، بسبب أعمال العنف وانعدام الأمن السياسي والاقتصادي. وهكذا نجد المهاجرين واللاجئين المقيمين في بلد انخرط في "ثورة"، هم أيضاً، ضحايا ترحيل متسلسل (فلسطينيون أو عراقيون، بشكل أساسي، ولكن يوجد أيضا إثيوبيون أو إيريتريون في مصر، وكذا منحدرون من الساحل في ليبيا، مثلاً).
وأمّا في اليمن، فقد أضافت حربان أهليتان في الشمال والجنوب، سابقتان على عصيان 2011، مُهجَّرِيهما إلى ضحايا العنف الذي رَافَقَ الانتقال السياسي (ما بين 310 ألاف و545 ألفاً و318 شخصا حسب المصادر)، وإلى اللاجئين الصوماليين والإثيوبيين والإيريتريين الذين يَصِلون، بشكل يومي، عبر خليج عدن من منطقة القرن الأفريقي.
وأما في ليبيا، فقد نجم عن الحرب الأهلية في شرق البلاد، وتدخل القوات المسلحة الخارجية إلى جانب المتمردين، ترحيل قُرابة 700 ألف مهاجر - حسب منظمة الهجرة الدولية - نحو تونس ومصر ونيجيريا والنيجر.
وتعتبر حالة اللاجئين الفلسطينيين متميزة، فهم لم يكتفوا بمغادرة الأراضي الفلسطينية وفلسطين التاريخية بسبب الصراعات العربية الإسرائيلية فقط، بل تم ترحيلهم أيضاً وفق إيقاع أزمات سياسية أخرى، وصراعات في المنطقة (الحرب في العراق والربيع العربي).
وأمام استحالة إعادتهم إلى وطنهم فَهُم يُشكِّلون الجالية التي يَصعُب إسكانُها من جديد، ويتم حبسهم في غالب الأحيان في مخيمات على حدود البلدان التي غادَروها.
ففي سورية، هُجِّرَ 270 ألف لاجئ داخل البلاد من بين 540 ألف لاجئ فلسطيني موجود في البلد، بينهم 100 ألف لاجئ في مدينة-مخيم اليرموك، بالقرب من دمشق.
وبعيداً عن التدفق الدقيق، نستنتج أن عملية ترحيل السكان المرتبطة بالربيع العربي تستجيب لـ"منطق" بالغ التعقيد وثمة مَخاطِرُ من أن تستمِرَّ الحالاتُ التي خلقَتْها الثوراتُ فترة طويلة.
المنفيون محبوسون في بلدان فقيرة
سواء تعلق الأمر بالفلسطينيين أم بالعراقيين أو السوريين، فإن لاجئي الشرق الأوسط في غالبيتهم العظمى يظلون في المنطقة... معظم المنفيين السوريين هربوا إلى الدول المجاورة لسورية. والحجم الأكبر من الأشخاص الذين "هجَّرَهُم" العنف (6 ملايين ونصف) لم يستطيعوا أو يشاؤوا، في حقيقة الأمر، اجتياز حدود البلد وأصبحوا أشخاصا مُشرَّدين داخلياً (internally displaced persons)، على حد توصيف منظمة الأمم المتحدة.
وتعد المناطق الأكثر تأثراً بظاهرة المنفى والترحيل الداخلي دمشق وحلب، حيث خلق الرهان الاستراتيجي للسيطرة على المدن، عنفاً إضافياً بين الجيش والمعارضة. إذ اصطف الجيش السوري والميليشيات الكردية على طول حدود الشمال، بينما تتواجد "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ومجموعات إسلامية أخرى في شرق البلد. وقد عثر السوريون في غالب الأحيان على لجوء في المدن الأردنية واللبنانية والتركية أو في القاهرة، أكثر مما تَواجَدوا في المخيمات التي وضعتها المنظمات الدولية وبلدان اللجوء لاستقبالهم. وأما في داخل البلد فإن مخيمات المُهجَّرِين لا تضم سوى 20 في المئة من مهجري المنطقة، رغم أن عددهم تَضاعَف.
وما بين مُهجَّرِي الداخل واللاجئين في البلدان المجاورة، يُجسِّد السوريون جغرافيا المنفى المذهلة عبر العالم. وفي الواقع، فإن المنفيين في غالبيتهم القصوى يتواجدون على مقربة من مَوَاطِنِهِم الأصلية. الدول الخمس الأولى في استقبال اللاجئين، سنة 2013، هي باكستان وإيران والأردن ولبنان وكينيا، التي تتلقى كل واحدة منها عشرات الآلاف من اللاجئين.
وعلى المستوى العالمي، شهدت سنة 2013 انفجاراً في عدد المُهجَّرين داخل حدود بلدهم: 33,3 مليون شخص. ينحدر 36 في المائة منهم من سورية وكولومبيا ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان.
وإذا كان عدد المهجَّرين الداخليين يزداد، فإنه لا يمكن أن نمنع أنفسنا أن نرى فيه الانتهاءَ من إنجاز منطق سجن اللاجئين في مناطقهم الأصلية. وهو منطق لم يكن مُوظَّفو وإداريّو المنفى على وَعْيٍ به، ولكنه مرتبطٌ بشكل كبير بإرادة الاستقبال الضعيفة جدا لدى الدول المتقدمة أو الصاعدة.
أزمة إنسانية مستدامة مُكلفة على أبواب أوروبا
أظهر الاتحاد الأوروبي، في مواجهة الأزمة السورية، كرماً مالياً وبرودة سياسية وشديدة البُخل في منح اللجوء لضحايا الأزمات المتعلقة بالهجرة، والمرتبطة بالربيع العربي. وبفضل ميزانية إجمالية تصل إلى مليارين و800 مليون يورو، يشكل الاتحاد الأوروبي المانح الدولي الأول للمساعدات الإنسانية لسورية، ولدول استقبال اللاجئين السوريين.
وحسب "يوروستات" (مكتب إحصاء الاتحاد الأوروبي) فإنه يوجد ما يقرب من 50 ألف و470 طالب لجوء من السوريين في دول الاتحاد الأوروبي سنة 2013. ومن بين 36 ألف قرار تمت الموافقة على منح اللجوء لـ33 ألف سوري في دول الاتحاد الثمانية والعشرين.
وفي العام الماضي، حصل 500 سوري على حق اللجوء في فرنسا. وجدير بالذكر أن معظم اللاجئين يفضلون الإقامة في السويد وألمانيا.
وارتفع عدد طالبي اللجوء بنسبة 32 في المئة في بلدان الاتحاد الأوروبي سنة 2013، وبنسبة 49 في المائة في جنوب أوروبا، بما فيها تركيا. ومن أهم الدول الصناعية التي تمنح اللجوء نجد ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا والسويد وتركيا والمملكة المتحدة.
وليست أزمة المنفى التي ولَّدَتها الحرب الأهلية الأولى من نوعها، التي وصلت إلى شواطئ وحدود أوروبا، لنتذكر الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان ما بين سنتي 1975 و1989، والصراعات في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، والحرب الأهلية في الجزائر، وبقدر أقل الحروب المتلاحقة في العراق ابتداء من سنة 1980 حتى الغزو سنة 2003.
وإذا كان العديد من سكان بلدان جنوب المتوسط قد وجدوا، في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، ملجأ في أوروبا، إما كَلاجِئين بمعنى الكلمة أو كمهاجرين، خلال فترات طويلة نسبياً، فإن سنوات 2000 شهدت انخفاضاً حاداً في عدد طالبي اللجوء والمهاجرين الذين تم استقبالهم في أوروبا. وإن أسبابَ هذا العداء الجديد لاستقبال اللاجئين المنحدرين من جنوب المتوسط، أيا كانت وضعيتهم، هي أسباب سياسية واقتصادية. إن الركود الاقتصادي وسياسات الحدّ من تدفق الأجانب تحت تأثير رأي عامّ مُعارِض للهجرة، بل وكاره للأجانب، يمكن أن تُفسِّر هذا النزوع. كما أن الهجرات القادمة من البلدان العربية يمكن أن يُنظَر إليها أيضا من خلال سطوة الانشغالات الأمنية المرتبطة بالإرهاب.
ثورات، هجرات ومنافٍ... تمنحنا الأزمة السورية دروساً في الجغرافيا والتاريخ والسياسة. وتدعونا إلى عدم نسيان أنه ليس الكلفة البشرية فقط، ولكن أيضا الاقتصادية والسياسة، لـ "الربيع العربي" تدفع كلُّ المنطقة ثمنها المرتفع".