لم يعد دانيال داي ـ لويس يريد التمثيل. إعلان ذلك مقتصرٌ على خبر مقتضب. بيان صادر باسمه، يؤكّد رسمياً أن البريطاني ـ الذي أصبح، منذ عام 1993، مواطناً إيرلندياً أيضاً ـ سيعتزل التمثيل، بعد انتهائه من تصوير ما سيُصبح آخر فيلمٍ سينمائيّ له، بعنوان "خيط الشبح" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي Phantom Thread)، للأميركي بول توماس أندرسن (1970)، المتعاون معه سابقاً في "ستكون هناك دماء" (2007)، والذي ـ بفضل دوره فيه ـ سينال ثاني جائزة "أوسكار" أفضل ممثل، هو الحاصل على تمثالي "أوسكار" آخرين، عن دوريه في "قدمي اليُسرى" (1989) للإيرلندي جيم شيريدان (1949)، و"لينكولن" (2012) للأميركي ستيفن سبيلبيرغ (1946).
لن يكون اعتزاله عادياً. هذا ممثل تُشكِّل أدوار سينمائية عديدة له دروساً في فنّ التمثيل. حِرفيته لن تبقى أسيرة المهنة والتجربة. التجديد في تقديم شخصيات ـ تتناقض صُوَرها وأساليب عيشها وفضاءاتها الإنسانية والاجتماعية ونفسياتها ـ جزءٌ من تمرينٍ دائم على اكتشاف المخبّأ في الأداء التمثيلي. لعلّ اختباراته المسرحية رافد لبلورة حضوره أمام الكاميرا السينمائية. لعلّ رغبته في تفكيك كلّ شخصية قبل تمثيلها، ثم إعادة تركيبها وفقاً لتصوّر صانعها، ولإضافات الممثل نفسه عليها، تؤدّي (الرغبة) إلى تنبّه دائمٍ إلى تنويع الاشتغال، والذهاب بالأداء ـ أحياناً ـ إلى ما هو أبعد من الظاهر.
الأمثلة عديدة. الحِرفية، المبنية على إضافاته الخاصّة، ينعكس جزءٌ منها في هذا الكمّ الهائل من الجوائز: 28 جائزة عن دوره في "ستكون هناك دماء"، و30 عن تأديته شخصية الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن (1809 ـ 1865). تماثيل "أوسكار" الثلاثة دليلٌ على حساسيته الجمالية والبصرية والإنسانية والنفسية والجسدية، التي تصنع كلّ شخصية سينمائية من تلك التي أدّاها، في 46 عاماً، علماً أن قلّة أدواره السينمائية (له أعمال تلفزيونية أيضاً) تعني التزامه مبدأ الانتقاء الدقيق لمشاريع، يريد أن تُغنيه، فيمنحها ما لديه من براعة وجمال ووعي ومعرفة.
والتماثيل الثلاثة تلك جعلته الممثل الوحيد الذي نال هذا العدد في تاريخ "أكاديمية فنون الصورة وعلومها"، علماً أن الأميركية كاترين هيبورن (1907 ـ 2003) ستبقى ـ لغاية الآن ـ الممثلة الوحيدة المتفوّقة عليه بعدد التماثيل، بحصولها على أربعة منها. لكن الجوائز والتماثيل لن تكون سبباً لتأكيد حرفيته المهنية، إذْ لن تحتاج هذه الأخيرة إلى دلائل كثيرة لتبيان مفرداتها، علماً أن إعادة مُشاهدة بعض أروع أفلام ثمانينيات القرن الـ 20 وتسعينياته تحديداً (من دون تناسي أدوار أخرى له لاحقاً)، تكفي لمتعة العين والانفعال والتأمّل، وللتنبّه إلى تلك البراعة والحِرفية.
وإذْ تحتلّ الموهبة حيّزاً أساسياً في تلك الحِرفية، فإن التزامه ثقافة "أكتورز استديو" ستكون ركيزة أولى لاشتغاله الأدائيّ، بإضافة مفهومه الخاصّ بكيفية التمثيل، المنعكس في "منح" ذاته، كلّياً، للشخصيات التي يختارها. إعادة مُشاهدة أفلامٍ له ـ المنخرطة في قراءة واقع إيرلنديّ مرير في لحظة الصراع التاريخي مع بريطانيا، أو العائدة إلى التاريخ الأميركي، أو المعقودة على شخصيات حقيقية أو وقائع يومية أو معالم إنسانية لأفرادٍ عاديين ـ كفيلةٌ بكشف قدرته الذاتية المُدهشة على الانتقال ـ في عالم العواطف والانفعالات مثلاً ـ من حالة الإفراط الشديد بإظهارها وعيشها، إلى تلك المدفونة في أعماق الذات، والمتحكّمة بمساراتٍ متناقضة أو متصادمة لصاحبها، في وقتٍ واحد.
لن يكون هذا سهلاً، كما أنه لن يكون حكراً على دانيال داي ـ لويس. رغم ذلك، فإن داي ـ لويس سيبقى أكثر ممثلي جيله (على الأقلّ) التزاماً حسيّاً وعقلياً بمبدأ الانصراف الذاتي المطلق داخل الشخصية التي يختارها، بدءاً من لحظة الموافقة على تأديتها. أي أن دخوله الشخصية انعكاسٌ لتمرينٍ روحي ومعنوي ونفسي وثقافي وانفعالي، إزاء العوالم الكثيرة، المتضاربة أو المتكاملة، التي تُشكّل هذه الشخصية، أو تلك.
ولعلّ أصدق وصفٍ قيل في الممثل ـ المولود في لندن، في 29 إبريل/ نيسان 1957 ـ سيبقى كامناً في نصّ الناقد السينمائيّ الفرنسي صامويل بلومنفيلد (1963)، المعنون بـ "دانيال داي ـ لويس: أفضل ممثل في العالم" (الصحيفة اليومية الفرنسية "لوموند"، 9 فبراير/ شباط 2008). فالناقد يستعيد "موهبة" الممثل، قائلاً إنها تمنحه تلك القدرة على الانتقال من "التحكّم بلغة الجسد وحقيقته، إلى حساب البلاغة"، وإتقانها وجمالها. يكتب بلومنفيلد أيضاً: "إنّ دانيال داي ـ لويس ينتمي إلى سلالة الممثلين، القريبة من حالة فقدان الكلام، التي تتنفّس ثورتها الصمّاء في مسام أجسادهم، من دون حاجة إلى أي قولٍ". في حين أن الصحيفة اليومية الأميركية "نيويورك تايمز" تختزل حضوره السينمائيّ بالقول إن "حدَّته على الشاشة تتنافس مع حدّته خارج الشاشة"، وإنه أحد أكثر ممثلي جيله إثارة للاهتمام، وأكثرهم عرضة للغموض والالتباس وعدم الفهم من قِبَل الآخرين (8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011).
لن يكون اعتزاله عادياً. هذا ممثل تُشكِّل أدوار سينمائية عديدة له دروساً في فنّ التمثيل. حِرفيته لن تبقى أسيرة المهنة والتجربة. التجديد في تقديم شخصيات ـ تتناقض صُوَرها وأساليب عيشها وفضاءاتها الإنسانية والاجتماعية ونفسياتها ـ جزءٌ من تمرينٍ دائم على اكتشاف المخبّأ في الأداء التمثيلي. لعلّ اختباراته المسرحية رافد لبلورة حضوره أمام الكاميرا السينمائية. لعلّ رغبته في تفكيك كلّ شخصية قبل تمثيلها، ثم إعادة تركيبها وفقاً لتصوّر صانعها، ولإضافات الممثل نفسه عليها، تؤدّي (الرغبة) إلى تنبّه دائمٍ إلى تنويع الاشتغال، والذهاب بالأداء ـ أحياناً ـ إلى ما هو أبعد من الظاهر.
الأمثلة عديدة. الحِرفية، المبنية على إضافاته الخاصّة، ينعكس جزءٌ منها في هذا الكمّ الهائل من الجوائز: 28 جائزة عن دوره في "ستكون هناك دماء"، و30 عن تأديته شخصية الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن (1809 ـ 1865). تماثيل "أوسكار" الثلاثة دليلٌ على حساسيته الجمالية والبصرية والإنسانية والنفسية والجسدية، التي تصنع كلّ شخصية سينمائية من تلك التي أدّاها، في 46 عاماً، علماً أن قلّة أدواره السينمائية (له أعمال تلفزيونية أيضاً) تعني التزامه مبدأ الانتقاء الدقيق لمشاريع، يريد أن تُغنيه، فيمنحها ما لديه من براعة وجمال ووعي ومعرفة.
والتماثيل الثلاثة تلك جعلته الممثل الوحيد الذي نال هذا العدد في تاريخ "أكاديمية فنون الصورة وعلومها"، علماً أن الأميركية كاترين هيبورن (1907 ـ 2003) ستبقى ـ لغاية الآن ـ الممثلة الوحيدة المتفوّقة عليه بعدد التماثيل، بحصولها على أربعة منها. لكن الجوائز والتماثيل لن تكون سبباً لتأكيد حرفيته المهنية، إذْ لن تحتاج هذه الأخيرة إلى دلائل كثيرة لتبيان مفرداتها، علماً أن إعادة مُشاهدة بعض أروع أفلام ثمانينيات القرن الـ 20 وتسعينياته تحديداً (من دون تناسي أدوار أخرى له لاحقاً)، تكفي لمتعة العين والانفعال والتأمّل، وللتنبّه إلى تلك البراعة والحِرفية.
وإذْ تحتلّ الموهبة حيّزاً أساسياً في تلك الحِرفية، فإن التزامه ثقافة "أكتورز استديو" ستكون ركيزة أولى لاشتغاله الأدائيّ، بإضافة مفهومه الخاصّ بكيفية التمثيل، المنعكس في "منح" ذاته، كلّياً، للشخصيات التي يختارها. إعادة مُشاهدة أفلامٍ له ـ المنخرطة في قراءة واقع إيرلنديّ مرير في لحظة الصراع التاريخي مع بريطانيا، أو العائدة إلى التاريخ الأميركي، أو المعقودة على شخصيات حقيقية أو وقائع يومية أو معالم إنسانية لأفرادٍ عاديين ـ كفيلةٌ بكشف قدرته الذاتية المُدهشة على الانتقال ـ في عالم العواطف والانفعالات مثلاً ـ من حالة الإفراط الشديد بإظهارها وعيشها، إلى تلك المدفونة في أعماق الذات، والمتحكّمة بمساراتٍ متناقضة أو متصادمة لصاحبها، في وقتٍ واحد.
لن يكون هذا سهلاً، كما أنه لن يكون حكراً على دانيال داي ـ لويس. رغم ذلك، فإن داي ـ لويس سيبقى أكثر ممثلي جيله (على الأقلّ) التزاماً حسيّاً وعقلياً بمبدأ الانصراف الذاتي المطلق داخل الشخصية التي يختارها، بدءاً من لحظة الموافقة على تأديتها. أي أن دخوله الشخصية انعكاسٌ لتمرينٍ روحي ومعنوي ونفسي وثقافي وانفعالي، إزاء العوالم الكثيرة، المتضاربة أو المتكاملة، التي تُشكّل هذه الشخصية، أو تلك.
ولعلّ أصدق وصفٍ قيل في الممثل ـ المولود في لندن، في 29 إبريل/ نيسان 1957 ـ سيبقى كامناً في نصّ الناقد السينمائيّ الفرنسي صامويل بلومنفيلد (1963)، المعنون بـ "دانيال داي ـ لويس: أفضل ممثل في العالم" (الصحيفة اليومية الفرنسية "لوموند"، 9 فبراير/ شباط 2008). فالناقد يستعيد "موهبة" الممثل، قائلاً إنها تمنحه تلك القدرة على الانتقال من "التحكّم بلغة الجسد وحقيقته، إلى حساب البلاغة"، وإتقانها وجمالها. يكتب بلومنفيلد أيضاً: "إنّ دانيال داي ـ لويس ينتمي إلى سلالة الممثلين، القريبة من حالة فقدان الكلام، التي تتنفّس ثورتها الصمّاء في مسام أجسادهم، من دون حاجة إلى أي قولٍ". في حين أن الصحيفة اليومية الأميركية "نيويورك تايمز" تختزل حضوره السينمائيّ بالقول إن "حدَّته على الشاشة تتنافس مع حدّته خارج الشاشة"، وإنه أحد أكثر ممثلي جيله إثارة للاهتمام، وأكثرهم عرضة للغموض والالتباس وعدم الفهم من قِبَل الآخرين (8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011).