يرى مراقبون في أحداث المعاليا والرزيقات التي استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، تهديداً مباشراً بزوال سلطة الدولة، باعتبار أنّ القبائل أخذت على عاتقها سلطة تنفيذ القانون بيدها، ممّا يشكل تهديداً أمنياً ويدخل ضمن "التمرد الناعم". وعلى الرغم من نقل الصحف السودانية قبل أيام من اندلاع الأحداث لمعلومات حول احتشاد قوات من القبيلتين استعداداً للمواجهة على خلفية سرقة مجموعة من المعاليا لـ350 من مواشي الرزيقات، لم تقوَ الحكومة على إيقاف الهجوم الذي يعد الأعنف. وفشلت الكتيبتان اللتان نشرهما الجيش السوداني لتشكيل منطقة عازلة بين القبيلتين، في الحد من اندلاع الحرب، على الرغم من إعلان الحكومة على لسان مساعد رئيس الجمهورية إبراهيم غندور، أن القوة العازلة خفّفت من وقوع مزيد من الضحايا.
اقرأ أيضاً: اتهام مسؤولين سودانيين بارزين بإشعال حرب شرق دارفور
اتهمت قبيلة المعاليا نائب رئيس الجمهورية حسبو عبدالرحمن ونافذين في الحكومة بالتورط في هذه المعارك، وطالبت بالتحقيق مع تلك المجموعة. وفي مؤتمر صحفي عقد أمس الجمعة، اشترطت قبيلة المعاليا إلغاء ولاية شرق دارفور للحوار مع قبيلة الرزيقات حول قضايا الصلح.
وتُتهم الحكومة في الخرطوم باستحداث ولايتين جديدتين في دارفور لإرضاء بعض القبائل التي قاتلت معها في التمرد الذي اندلع قبل 12 عاماً في إقليم دارفور، ومن بينها قبيلة الرزيقات.
وأكد رئيس مجلس شورى المعاليا مردس جمعة أن الهجوم على قبيلته كان مدبّراً ومخططاً لإبادة القبيلة، مشيراً إلى أنّهم كانوا على علم بكافة التحركات والخطط، ومنتقداً تجاهل الدولة للتنبيهات التي أرسلوها لهم عن الهجوم. وأوضح أنّ المهاجمين استعانوا بأسلحة الدولة، وشدد على ضرورة التحقيق مع كافة المتورطين ومن بينهم عبدالرحمن، الذي ينحدر من دارفور ومن قبيلة الرزيقات، بالإضافة إلى المسؤولين الذين اتهمهم باستغلال سلطاتهم "لأغراض أخرى".
إلى ذلك، أبدت قبيلة الرزيقات استعدادها لإبرام اتفاقيات مصالحة مع قبيلة المعاليا من دون شروط. وأكد مجلس شورى قبيلة الرزيقات ترحيب القبيلة بأي مبادرات لرأب الصدع، مشيراً إلى أنّ الإدارة الأهلية اتخذت إجراءت لوقف الحرب القبلية، وقامت القيادة بالاتصال بالمعاليا، في محاولة لوقف العنف ودعم السلام والتعايش الاجتماعي.
وشكّلت وزارة العدل السودانية لجنة مسنودة بقوة عسكرية للتحقيق في الأحداث. ومنح وزير العدل محمد بشارة اللجنة صلاحيات واسعة، منها، التحري والضبط والإحضار، بالإضافة إلى التحقيق مع كافة المتورطين في النزاع أياً كان موقعهم.
اقرأ أيضاً: تحرك متأخر للحكومة السودانية لوقف القتال بين قبيلتين
وتعهد وزير العدل في تصريحاته، بمحاسبة كل من يثبت تورطه، "حتى ولو طالت الاتهامات وزير العدل نفسه، سيُساءل". ونفى الوزير أن تكون لديه معلومات بشأن مزاعم تورط نافذين في الحكومة في الصراع بين المعاليا والرزيقات، مشدّداً على أنّ لجنة التحقيق مكلّفة بتحديد الأطراف، "عموماً، المزاعم مجرد حديث معمم، وعلى اللجنة مساءلة كل من يثبت تورطه، بغض النظر عن منصبه ومكانته". وتابع "لن ينحصر الاستجواب والتحري عن الأطراف في مسرح الجريمة فقط، وإنما سيمتد إلى كل من شارك أو حرّض بشكل أو بآخر".
ويشير الخبير بملف دارفور محجوب محمد صالح إلى أن قضية النزاعات القبلية في إقليم دارفور قديمة، ومن ضمنها صراعات حول الموارد الطبيعية التي تطل برأسها من حين إلى آخر، عندما تكون الحكومة المركزية هشة، وتنحاز لطرف دون الآخر. ويلفت إلى ضرورة حسمها عبر مستويين، سن قانون خاص بملكية الأرض، يتوافق عليه الجميع، وتكوين آلية لفض النزاعات، فضلاً عن انتهاج الحكومة لمبدأ الحياد في تلك النزاعات.
اقرأ أيضاً: مواجهات دامية بين قبيلتين في السودان وإقامة منطقة عازلة
ويقول، "أصبح هناك ثقافة حروب متأصّلة في البلاد بسبب الحروب الداخلية التي امتدت آثارها إلى دارفور"، مضيفاً، "ما يعمق المشكلة أن النزاعات القبلية تداخلت مع النزاعات السياسية، ما يؤدي إلى الانفتاح على كافة الاحتمالات في السودان، بما فيها تفتيت البلد وتهديد أمنه الداخلي". يوضح محمد صالح أنّه "في العام الماضي خلّف القتال بين المعاليا والرزيقات 600 قتيل و900 جريح من الطرفين، وتعجز الدولة نفسها عن دفع تعويضات هذا العدد، ما يزيد الأمر تعقيداً".
أعادت الأحداث التي وقعت بين قبيلتي المعاليا والرزيقات قضية دارفور إلى الواجهة، بما يتصل باهتمامات المجتمع الدولي، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي التي تنظر بقلق إلى تفجّر الأوضاع في السودان، الأمر الذي يؤثر سلباً على المنطقة برمتها، ويهدّد مصالح تلك الدول هناك.
ففي الخرطوم، عقد دبلوماسيو الدول الأوروبية المنضوية تحت الاتحاد الأوروبي اجتماعاً طارئاً يوم الأربعاء، ناقش تطورات القتال بين القبائل السودانية، وطالبوا في بيان صدر عقب الاجتماع بتعزيز جهود الوساطة لتهدئة الأوضاع بولاية شرق دارفور، وحماية المدنيين، وإيجاد حلول دائمة لجذور النزاع القبلي، لا سيّما بين قبيلتي المعاليا والرزيقات.
ووصفت الدولة على لسان وزير الدفاع عبدالرحيم محمد حسين الحرب، القبلية، بالتهديد الأكبر للأمن القومي عموماً، ولدافور خصوصاً، مؤكّداً أنّها تقف عقبة أساسية أمام تحقيق الاستقرار بالإقليم. واعتبر أن حسم التمرد مقارنة بالحرب القبلية، "أمر سهل".
وينتقد مراقبون صمت الحكومة عن إدانة أطراف النزاع الذي اندلع بين المعاليا والرزيقات وفشلها في الحد من وقوع الاشتباكات، على الرغم من علمهم المسبق به، معتبرين أنّ ترك الوضع كما هو عليه، سيزيد من تعقيد فرص الحلول المستقبلية ويخرج الإقليم عن سلطة الدولة.
اقرأ أيضاً: الأمن يمنع صحافيين من الاحتجاج ضد الصراع القبلي
جذور الحرب وخريطة القبائل
توارثت الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان قضية النزاع بين قبيلتي المعاليا والرزيقات، إذ يتجاوز عمرها الـ50 عاماً. تتصل القضية بخلافات حول ملكية الأرض، ولا سيما أنّ النظام القبلي في السودان ذا الجذور التاريخية، يقوم على حيازة الأرض، أي أن تمتلك كل قبيلة الأرض التي تقيم فيها، وتظهر التقسيمات "دار قبيلة الرزيقات ودار قبيلة الكبابيش" وغيرها. وتمنح الأرض كـ"حاكورة" وفقاً لنظام ملكية الأرض الذي عمل عليه الاستعمار البريطاني في البلاد، وعرف محلياً بـ"الحواكير"، (عبارة عن أرض زراعية أو سكنية أو رعوية، يهبها سلطان من سلاطين الفور لشخص أو جماعة أو قبيلة أو عشيرة، بمرسوم سلطاني يعيّن حدودها الطبيعية لتكون ملكاً متوارثاً).
تعتبر مساحة إقليم دارفور من أكبر مساحات المناطق السودانية (مساحته توازي مساحة فرنسا تقريباً)، وتعد ثاني أكبر ولاية من ناحية التعداد السكاني. ويضم الإقليم حوالي مائة قبيلة تنقسم بين "عرب وزرقة". ويمثل أهم قبائل الزرقة، (الفور، المساليت، الزغاوة، البرقد، التاما، القمر). أمّا أهم القبائل العربية، (الرزيقات، التعايشة، السلامات، المسيرية، الهبانية، الفلاتة).
وتعتبر قبيلة الفور من أقدم القبائل التي سكنت الإقليم، وتتمركز في المناطق الخصبة وتمتهن حرفة الزراعة. وقد حكمت دارفور عبر سلطنة الفور منذ العام 950 لغاية 1916، العام الذي ضُمّ فيه إقليم دارفور لحدود السودان وأصبح جزءا منه، إبان الحكم التركي. ويتميز أبناؤها بالقامة المتوسطة، ويميل لونهم إلى السمرة الداكنة، وتشهد لهم تاريخياً كافة القبائل بالمنطقة بتمتعهم بالقوة والبطش.
أما القبائل العربية في دارفور فرعوية غير مستقرة، تعمل موسمياً للبحث عن الكلأ والماء وصولاً إلى الحدود السودانية الليبية، وتعتبر الزراعة السبب الرئيسي لإثارة الحروب القبلية.
اقرأ أيضاً: أحداث "مريبة" تعيد السيناريوهات التغييرية إلى الواجهة
يؤرخ للصراعات القبلية في دارفور منذ العام 1905، واستمرت حتى أيام الحكم التركي وعهد المهدية، حتى اليوم. أخذت أشكالاً عدة، منها ما يتعلق بالغارات التي يشنها الفرسان في ما بينهم، كسباً للمال، إلى جانب القتال حول المراعي، وتطورت في الفترة الأخيرة إلى حرب إثنية، وأخذت شكلًا جديداً، فعوضاً عن القتال بين إثنيات مختلفة، أصبحت تندلع داخل الإثنية الواحدة.
ويُتهم النظام الحالي بتعميق وتجذير العنصرية في دارفور، وإذكاء النزاعات القبلية عبر استغلال الخلافات التاريخية وتوظيفها بما يسمى "صراع الإسلاميين" الذي بدأت جذوره بعد المفاصلة الشهيرة داخل النظام، وأدّت إلى خروج زعيم المؤتمر الشعبي المعارض حسن الترابي عن السلطة في تسعينيات القرن الماضي. وقامت بعدها بسنوات حركات تمرد في إقليم دارفور، قادته الحركات المسلحة التي ينتمي أغلب منتسبيها، في ذلك الوقت إلى إثنية "زرقة" قبل أن تتوسع وتضم إثنيات مختلفة، لينحاز كل طرف "الحزب الحاكم"، و"المؤتمر الشعبي" إلى إثنية محددة في الإقليم لتصفية حساباتهما.
يرى محللون أن النزاعات القبلية في دارفور نتاج لسياسات النظام التي حاول من خلالها توظيف التوازنات القبلية لصالح بقائه في السلطة، باستخدام التمييز غير الإيجابي وصنع تحالفات وسط القبائل.
عند انطلاق التمرد في دارفور، عمدت الحكومة إلى تسليح القبائل العربية بجميع أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ومنحتهم الحق في الاستيلاء على الغنائم من الحركات، بالإضافة إلى الأراضي التي يطردون منها التمرد. الأمر الذي أظهر الحرب في بدايتها، على الرغم من مشروع المطالب الذي رفعه المتمردون، كحرب عرقية بين "زرقة وعرب".
وفي تصريحات سابقة نقلت عن القيادي في الحزب الحاكم ووزير الزراعة السابق عبدالحليم المتعافي قال: "حتى العام 1997، قبل مفاصلة الإسلاميين، كان تعيين حكام الولايات يتم على أساس قومي، ليتقرر بعدها التوظيف على البعد القبلي والجهوي لتغذية وتعزيز نفوذ الحركة الإسلامية".
وبعد تراجع حدّة التمرد في إقليم دارفور، انقلب الوضع، لتستخدم تلك القبائل الأسلحة ذاتها التي واجهت بها التمرد في قتال بعضها البعض، لأسباب مختلفة، أغلبها على الموارد.
لم ينج الحزب الحاكم من نيران القبلية التي بدت خلال انعقاد مؤتمره العام، مختلفة، ممّا شكّل خطورة على تماسك الحزب الحاكم الذي فشل في تقديم مرشحين لانتخابهم من قبل الشعب لحكم الولايات. لجأ إلى تعديل الدستور الانتقالي، بإلغاء عملية انتخاب حكام الولايات ومنح رئيس الجمهورية سلطة تعيينهم.
اقرأ أيضاً: غارات السودان واستراتيجية الإلهاء
وتعتبر قبيلة الرزيقات من القبائل القديمة في إقليم دارفور أيضاً، وهي من أكثر القبائل التي حصلت على تسليح من قبل الحكومة التي تتجنّبها دائماً، لا سيّما أنّ القبيلة تتمتع بمقاتلين أشداء لا يخشون الموت. تتشكّل معظم قوات "الدعم السريع" التي تساعد الحكومة في حربها على التمرد حتى تاريخ اليوم، من قبيلة الرزيقات. تُتّهم الحكومة بتمييز تلك القبيلة، وأنّها عمدت إلى تقسيم ولايات دارفور الثلاث، لإضافة ولايتين لصالح القبيلة، فضلاً عن تعيين أحد أبنائها في منصب نائب رئيس جمهورية، إلى جانب الصمت الحكومي عن تجاوزات تلك القبيلة، التي تشكل العنصر الأساسي في أي صراعات قبلية. خاضت الرزيقات حروباً قبلية مع 12 قبيلة مختلفة في دارفور، آخرها الحرب مع قبيلة المعاليا.
هذا ما يفسر اتهام قبيلة المعاليا لنائب رئيس الجمهورية حسبو عبدالرحمن ونافذين في الحكومة بالتورط في المعارك الأخيرة ومطالبتها بالتحقيق معهم. وسارع مساعد رئيس الجمهورية إبراهيم غندور إلى نفي الاتهامات، مشدّداً على عدم إطلاق التهم، مع تأكيده على مبدأ المحاسبة في حال ثبت الأمر.
اقرأ أيضاً حادثة أم درمان: استبعاد الفرضية الخارجية