خُرافة "تغيير الطبق اليومي لإنقاذ العالم"

25 اغسطس 2019
+ الخط -
نشر الفلسطيني شربل بلوطين صاحب مفهوم "الخُضريّة" في 21 أغسطس/آب 2019، فيديو يحملُ مُغالطات منطقية ومحاولة للإقناع بفكرة من خلال الاستهانة بأخرى، وكذلك تحميل الضّحية ذنب ضحيّة أخرى.

ومن جهة، لا يختلفُ كثيرًا عن الخطاب الاستعماري، حتّى وإن كان لا يقصد/ يُدرك ذلك، ومن جهةٍ أخرى، يُشبه الخطاب الديني المُتشدّد الّذي يستخدمُ لغة الدم لمنع الدم. إضافةً إلى تمييع قضية عادلة، من خلال عَقد مُقاربات/ تشابهات غير موجودة، لا من حيث الجوهر ولا الأداة ولا الغاية. ولستُ هُنا بصدد مُناقشة فكرة الخُضريّة، والحديث فيها يطول، بل أُعلّقُ في الجزء الأول تقويمًا ونقدًا لهذا "المذهب" من الخطاب الُخضري، ومن ثمّ أتناول الكارثة الّتي جاءَ بها بلوطين بتشبيهه لممارسات منظومة الاستعمار الإسرائيلية، بالفلسطيني الّذي يأكلُ دجاجة.

المقارنة بين تحرّر الإنسان من العبودية وتحرّر الشعوب من الاستعمار، وتحرّر الحيوان، أو الربط بينهما، هو خطاب رَجعي؛ أي يجعلنا نعود خطوة إلى الوراء، ليصبحُ تفكيرنا -إن أخذنا الخطاب على محمل الجد طبعًا- كيف ننجو نحنُ لا كيف نُساعد غيرنا، بل وكيف نُبقي على حالهم لأجلِ مصلحتنا، مثلما فعلَ بعضُ العبيد من كبار الخدم لمساعدة السّيد الأبيض. وأيضًا ذلك يُفضي إلى إرجاء قضيّة تحرّر الحيوان، بذريعة الأولويات. بعبارةٍ أخرى، ربط القضايا العادلة ببعضها، وبناء الاشتراطات لتحقيق إحداها بموجبِ الأخرى، يجعلنا نخسرُ العدالة نفسها ونحيدُ عن السّؤال الأخلاقي. وبالمناسبة هو المنطق ذاته الّذي يطرحُ السؤال الماذا عنّي على مُنظّري الخُضريّة: "ما هذه الرّفاهية والسذاجة! تدافعون عن الحيوان وتنسون الإنسان؟ ماذا عن سورية، اليمن، فلسطين، الأقليات العرقية/الدينية المُضطهدة، جرائم القتل والإبادة… إلى آخره؟".


وكذلك، من المهم التّخلي عن خطاب "تديين" الخُضريّة، حتّى لا يكفرُ النّاس بها، قبل أن يؤمنوا حتّى، ولا الدّفاع عنها عن طريق مُغالطات تفسيرية ولغوية لنصوص دينية، فإن كانت المسألة تقومُ على العلم والمنطق في الأصل -كما تدّعي الخُضريّة- لا الخطاب العاطفي، لا يجبُ الزّج بها في معتركات غير مُجدية، تنتظرُ فتوى شرعية، بدلًا من المُحاججة العقلانية.

وفي عبارة بلوطين الذّكوريّة، الّتي بحسب صيغتها يُخاطب الرجل ويستثني المرأة، بل ويُثير شفقة الرجل عليها كما في مقطعها الأول على الحيوان: "يجب أن نتوقف عن قتل الحيوانات، حتّى لا يُقتل البشر وخصوصًا المُستضعفين وهنّ النساء"، محاولة بناء فرضيّة دون أي علّة ربطية، ووعدٌ بجنّة مُتخيّلة، فلنفترض أنّنا توقفنا عن قتل الحيوانات، أو أنّه من الأصل لا وجود لحيوانات، هل سنتوقف عن القتل، أم سنأكلُ بعضنا؟ وهل حامل الهوية الخُضريّة بالضرورة لا يحملُ سكّينًا ولا يقتلُ إنسانًا؟ لا أستسيغُ العبارة السّابقة، إلّا وأنا أسمعها رديفًا لرجل أبيض يُنادي بجماعته: "يا أصدقاء، فلنتوقّف عن قتل السّود في أفريقيا، حتّى ينعمُ البيض بالسلام ويتوقفوا عن قتلِ بعضهم في أوروبا".

في عباراته الأربع: "ممارستنا العنصرية والكبت والسجن بحق تلك العجول، مثل ممارسة الصهيونية للعنصرية والقتل والاستبداد ضدّنا"، "الصهيوني المُتعصّب يراك كما ترى العجل المسكين" "العنصرية تنتهي على الفلسطينيين، عند التّخلص من العنصرية ضد العجول"، "الصهيوني في ممارسته العنصرية يستند إلى النصِّ الديني وأنّ الله هو من حلّل لهم ذلك"، لا تشبيه يصح، ويظهر عدم فهم للفكر الصّهيوني، كون "إسرائيل" لم تحتل فلسطين عن طريق مُناظرة فكريّة، بل عن طريق الحرب والإبادة وتهجير للسُكّان الأصليين وجرائم ضدّ الإنسانية، وعملتْ بالتزامن مع ذلك، على إضفاء شرعية للاحتلال من خلال خطاب المظلومية التاريخية، وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإثبات الجدارة أمام المُجتمع الدولي ومساعدته في تحقيق مشاريع استراتيجية، وتحوير النّص الديني، وتحريف سردية التاريخ، وبالمناسبة النّص التوراتي بحدِّ ذاته ينفي فكرة "إسرائيل". للاستزادة يُمكن الإطلاع على المشروع الفكري "بعث التاريخ الفلسطيني القديم" لعلاء أبو عامر، والّذي صدر فيها: "فك الشيفرة التوراتية"، "في البدء كان إيل"، "الفلسطينيون-الكنعانيون القدماء"، "فلسطين السوريّة الفينيقية".


كما أنّه لا يُمكن اتّهام من هو ليس خُضري بالعنصرية، بل في الخطاب الخُضري هذا عُنصرية باحتكار المبادئ الأخلاقية، وتخيير المرء بأن تكون خُضريا، وإلا فأنت عُنصري وعنيف وقاتل. ولا يوجد صهيوني مُتعصّب وآخر ودود، الصّهيونية بحدِّ ذاتها قائمة على فكرة التّعصب ونفي الآخر، ولا وجه تشابه بين قتل الصّهيوني للفلسطيني، وأكل الفلسطيني للعجل، فالأول هدفه الإبادة ونفي الآخر، والثاني لا يوجد لديه منطلقات فكرية في هذا الفعل، غير الوجود الطبيعي، واستمرارية للهوية البشرية مُنذ بدء الحياة. وبالمناسبة، إذا تخلّى الفلسطيني عن أكل اللحوم، فلن يتغيّر شيء، على العكس الخطاب السّلمي مع المُحتل لن يُفيد بشيء، إذ هو يرفضه، ولا توجد طريق تحرّر لم تلوّن بالأحمر، وحتّى لو امتنع الفلسطيني عن الأكل ككل، لا فقط اللحوم، على العكس لن يُحقّق شيئا، بقدر ما يكسب وهماً مُتخيّلاً، فشعارات الخُضرية الرومانسية بتحويل العالم إلى الحب والسلام، يخصُ منحى ومنظورا ضيّقا، فمنع الاستبداد أو الاستعمار، يكون من خلال الفعل السياسي والنضالي.

الدم والعنف والقتل لن ينتهي، لنأخذ بهذه العبارة غير الدقيقة: "99% من معاناة الحيوان سببها الإنسان"، فالحيوان يُعاني بسبب التّغيرات البيئية والفيروسات والأمراض والحيوانات الأخرى والإنسان، ومع التّطور التاريخي للزراعة ووسائل الإنتاج أصبحتْ هناك "صناعة اللحوم" وتشييء للحيوانات، وكذلك يُعاني الإنسان من نفسه ومن الحيوان والحشرات والكائنات الحيّة الأخرى، والإنسان بحدِّ ذاته ماكينة إيذاء، والخُضريّة ليست "الأمر الوحيد الذي بإمكانك القيام به من اجل توقيف العنف"، لكن يُمكن استخدام هذه العبارة في حال واحدة، عندما يعمُّ السلام العالم، ولا يُقتل الإنسان بأي شكل أو طريقة، حينها تصحُّ العبارة، بسبب اقتصار العنف وجوديًا على الحيوان.

"الخضرية تعمل على مساواة الإنسان بكافّة الكائنات"، وهذا غير مُمكن وتضخيم لفكرة الُخضرية، فقبل طرح سؤال الإنسان، هل يُمكننا المساواة بين باقي الكائنات أصلًا؟ وكيف يكون شكل هذه المساواة، يُمكننا توزيع اللامساواة بعدالة أكثر، لكن تحقيق المساواة غير ممكن ولا مطلوب. فالخُضريّة مثلًا، لا تُمانع استخدام الحيوانات في التجارب العلمية وفق شروط مُعيّنة وإن كان لا يوجد حل آخر، وكذلك الاستفادة من الأعضاء والأنسجة والسّموم، دون وجود تعذيب.

ختامًا، لا بدّ من تقويم الخطاب الخُضري، كما باقي الشعارات المناصرة للقضايا العادلة، حتّى يُتاح نشرها وإقناع الآخرين بها، وإلا ستبقى محبوسة في إطارها الطوباوي، كما يجب الابتعاد عن تضخيم الشعارات بهدف الاستقطاب، فالخُضريّة ليستْ حزبًا ولا دينًا يُجبُ التبشير له، إنما نمط حياة "Life Style" يقوم على فكرة تغيير النمط الغذائي بإمكانية العيش دون إيذاء الآخر-الحيوان؛ أي تقليل العُنف في العالم قدر الإمكان، وتقليل تلويث البيئة، فحتّى لو أصبح كل البشر خُضريين، لا العنف سينتهي ولا التلوّث ولا القتل.
49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
مجد أبو عامر

باحث وشاعر فلسطيني

مجد أبو عامر