خيري منصور: "أنا" متعدّدة وجامحة لا تقبل الركون

20 سبتمبر 2018
(خيري منصور، عمّان 2017)
+ الخط -

انتبه الشاعر والكاتب الفلسطيني الأردني خيري منصور (1945 – 2018) الذي رحل أوّل أمس الثلاثاء، باكراً إلى أن ذاكرته مشبعة بطفولة لا تحصرها قيود ولا تحدّها حدود، إذ نشأ في "جو محاط بالخيول والأسلحة وشيء من البداوة الغريبة؛ البداوة المتزاوجة أيضاً مع المدنية والجبل" كما يروي في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه العام الماضي، ستقوده هذه الذاكرة إلى مقاومتها واكتساب مناعة تحميه من الوقوع في كمائنها وأفخاخها.

طفولته في قريته دير الغصون قرب طولكرم الفلسطينية، رسمت له خيالاً مكّنه من العيش وفقاً له، والكتابة بصوت يخصّه، والتي يردّها إلى قواسم مشتركة تجمع سكّان الجبال الذي يعتقد بانتسابه إليهم أنه "أقرب إلى السماء"، وتأتي المصادفة أن ينشأ في بيت يقع على قمة جبل يرى منه الأشياء تبدو أصغر لكنها تظهر بشكل بانورامي أوسع.

تزامن ذلك مع احتلال فلسطين عام 1948، التي كان يؤكد دوماً أنه "أجهض نمو المجتمع الفلسطيني كلّه"، ومنذ تلك اللحظة برع صاحب "التيه وخنجر يسرق البلاد" في التقاط الجزئي والتفاصيل التي تذكّر بالمشاهدات الأولى للكون من فوق ذلك المرتفع، وفي توظيفها في سياقها ومعناها الكلّي، رافضاً ومستنكراً كذلك أن يستسلم لذكرياته فينقطع عن راهنه واستيعاب اشتراطاته.

لعلّ تلك الالتقاطة الحاسمة جعلته ينجو من أوهام عديدة، في مقدّمتها الامتثال لردود الفعل التي تفرضها الهزيمة على وجدان الجماعة أو الأمة، فتمتثل لقدرها الميتافيزيقي وتصوغ متتاليات من الحنين إلى ماضٍ لا قرار له، فلم ينقطع يوماً تنظيره لما سمّاه "النوستالجيا المضادة" التي كلّفته عزلة مهيبة واجتراح مكانة تقيه شر الانجرار وراء ثقافة تقتات على "الشخصنة والثرثرة والفضائحية"، بحسب توصيفه للحالة الثقافية العربية السائدة.

بدا صاحب "لا مراثي للنائم الجميل" منشغلاً بذلك الموقع الذي اختاره لنفسه، في أن يحيا خارج الالتباسات التي تمليها "الأمكنة الفاسدة" التي لا تمل النميمة والمكائد وحسابات الشلل والمؤسسات ورأس المال الذي يريد أن يغسل ثرواته من خلال صحافة "تحترف تبرير الأخطاء"، ولربما استبدّ به "وسواس" الحفاظ على ذلك الموقع فلم يكتب إلا قصائد يريدها مختلفة ولا تشبه أحداً غير الحياة التي فهم كيف يعيشها، لا كم يعيشها.

في قصيدته '"نعاس أزلي"، يبثّ خلاصة تأمّلاته في ما عاش، فيكتب:
"لم أنم
منذ خمس نساء وتسع مدن
سريري.. ساقاي
مائي دمي
أمامي عدو تقمّصني.. وتقنّع بي
وورائي رماد السفن...
أنا شبه جزيرة نفسي
وذاكرتي اليابسة".

ظلّ منصور وفياً لكّل ما آمن به، ولتلك الخلطة "المتناقضة" التي كوّنت بناءه النفسي والشخصي، يتسكع في وسط عمّان أو في القاهرة القديمة يسير في أمكنة لم يسع إلى فهم جغرافيتها بل إلى نبش تاريخها واستخلاص أفكار يمضي بها عكس اتجاه الريح وأقنعة المثقفين التي تحجب عنهم الواقع، ويفتّش عن قطعة "أنتيكة" أو لوحة أو تحفة غريبة يضمّها إلى مقتنيات بيته والمفردات التي تؤثث غربة "بيدبا" الغارق في محنة الأسئلة التي كلما وقع على جواب عنها، تركه بحثاً عن غيره في رحلة لا نهاية لها.

مضى صاحب "صبي الأسرار" في كتابة قصيدة تنبني عادة على صورة واحدة تحملها فكرة بسيطة لكنها محتشدة بالتساؤلات والإشارات الحرجة والمربِكة، حيث تحيل هذه التفاصيل المنتقاة بعناية القارئ إلى أن يربط تاريخه الشخصي بتاريخ الجماعة وبالحياة بمفهومها الوجودي العام، فيقترن العابر بالأبدي والخالد.

في حديثه ذات مرّة عن المؤثرات التي أنتجت قصيدته، يؤكد أن الحياة كانت مصدره الشعري الأول، ثم الحياة، ثم الحياة، وأخيراً الكتاب، وبلغة تملأها الحماسة أكمل "لم أكن لأهتدي إلى الكتابة إلا بعد أن أصبحت دمعتي أكبر من عيني وابتسامتي أكبر من فمي، لو استطعت أن أعيش بتوازن لما كتبت. ذهبت إلى الكتابة لضرورة أو حاجة عضوية فالطاقة التي تتحرّك في داخلي دفعتني أن أعيش حيوات أخرى غير قادر عليها عضوياً لكني قادر عليها بالتمثّل من خلال الكتابة.. من خلال الخيال نفسه".

لم تخل أحاديثه من تلك السخرية التي تلوح خلف فيض جدّيته وثقافته الموسوعية، فيرى أن معظم من يكتبون شهاداتهم عن إبداعهم، أو حتى سيرتهم الذاتية، يعيدون إنتاج بداياتهم بما يليق وشيخوخة محكمة، فالأرعن يصبح واعظاً بامتياز والعليل يتداوى، حيث تقترض ذاكرته من خياله، وليس العكس، وتحضر هنا قصيدته "الحافة" التي يسجّل فيها:
"أقل... أقل من الاعتراف
وأكثر من نبأ لا يهم سوى اثنين
طفل توقف في فكرة
وأب مات قبل الزفاف
وقد تستفيض القصيدة حتى الرعاف
فتعددهم... من شمال القتيل... إلى غربه
ومن بذرة الحزن حتى القطاف".

في تلك المساحة التي تحوي "أنا" متعدّدة وجامحة لا تقبل الركون إلى "حياة يومية بالمعنى التفصيلي، وبنسيجها الاجتماعي"، فضّل ألا يذهب إلى الوظيفة وأن يقضي ساعات عمره وأيامه وسنواته في القراءة والكتابة والتجوال بين الأفكار التي أدمن عِشرتها ومنادمتها، بينما جميع من عرفهم والتقى معهم هم أحد تمثّلات تلك الأفكار وتمظهراتها يساجلها هي، ولم تكن غايته أن يقيم حواراً معهم.

أخلص صاحب "تجارب في القراءة" لمشروعه الأوّل والأهم، أن يؤسس القارئ القارّ فيه وعيه وطرق تفكيره وأسلوب حياته ونمط عيشه، أما الشاعر وكاتب المقال فابتكرهما ليكون "خادمهما"، بحسب مقولة الكاتب الأورغوياني كارلوس ليسكانو في مؤلّفه الشهير "الكاتب والآخر".

"زوربا وقارض الكتب كلاهما يعيش في داخلي، وأحياناً يتصارعان في داخلي وربما يأتي يوم يقتل أحدهما الآخر وتنتهي المصالحة بينهما لصالح الأحمق المغامر أو الحكيم المتأمل". ربما لم ينتصر أي منهما وظلّ خيري منصور مديناً لصراعهما حتى رحيله.


تجارب في القراءة
أصدر خيري منصور "تجارب في القراءة" في بغداد عام 1986، وهو أحد كتبه الذي لم يأخذ حقه من الاهتمام، لما تضمّنه من نقد ورؤى وتحليل لمضامين ما اطلع عليه في فترة من حياته، وتأملات في تجارب أصحابها وسيرهم، وكان الدافع وراء تأليفه أن "لا تصبح القراءة استقبالاً سلبياً أو علاقة استهلاكية، فإن القارئ الحصيف يجد نفسه شريكاً في الكتاب الذي يقرأه، ولا يعود محايداً كصفحة بيضاء".




المساهمون