خيبة الانعزالية الأميركية من فوز ماكرون

11 مايو 2017
فوز ماكرون يعكس تمسك فرنسا بالمشروع الأوروبي(ديفيد راموس/Getty)
+ الخط -
خاب ظن التيار الشعبوي الأميركي من نتائج انتخابات الرئاسة الفرنسية. كان الاعتقاد سائداً في أوساط هذا التيار بأن المرشح الفائز في التصويت، إيمانويل ماكرون، هو "آخر أمل" لمعارضي الخط الوطني المنغلق، كما كتب منظّر الشعبوية في أميركا، باتريك بيوكانن، عشية الانتخابات.

المفاجأة أن ماكرون فاز بأكثرية كبيرة ضد منافسته، مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، التي عوّل عليها التيار الشعبوي الأميركي، بقدر ما راهن عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. كلاهما يطمح إلى فرط الاتحاد الأوروبي. لكن الانتخابات الفرنسية كانت حاسمة بالنسبة لهذا الطموح، لا سيما أنه لو فازت لوبان بالرئاسة لكانت الفرصة كبيرة لتحقيقه.

"النكسة" لهذا التيار كانت في أن لوبان، الرمز الأقوى في القارة الأوروبية للموجة الشعبوية، والتي خاضت المعركة باسم حزب منظم (الجبهة الوطنية)، منيت بهزيمة نكراء على يد "مبتدئ في السياسة". وأتى فوز ماكرون ليشكل ضربة للتوجهات القومية والحمائية المتعصبة التي يتبناها التيار الشعبوي الأميركي. وكأن الرسالة التي وجهتها فرنسا للعالم، تتمثل في أنها لا تقبل التقوقع ولا تنساق وراء التخويف من الآخر، وتتمسك في المقابل، بالمشروع الأوروبي. وفي هذا رد مباشر على خطاب التيار الشعبوي في أميركا، الذي تطلع إلى تسويغ واسع لمقارباته في القارة الأوروبية. وما يزيد من إحباط هذا التيار أن أصحابه الذين سبق أن باءت توقعاتهم بالفشل في هولندا والنمسا، قد لا يحصدون سوى النتيجة نفسها في انتخابات مفصلية مقبلة، لا سيما في إيطاليا وألمانيا، بحسب ما تشير التوقعات. وقد توقف مراقبون عند حصيلة انتخابات محلية جرت أخيراً في ولاية شليسفيغ هولشتاين الألمانية، فاز فيها الحزب "المسيحي الديمقراطي"، الذي تنتمي إليه المستشارة، أنجيلا ميركل.


ورأى مراقبون أن تقدم هذا الحزب على منافسيه (حصل على حوالي 33 في المائة من الأصوات) يشكل مؤشراً مبكراً على ثبات رصيد المستشارة الألمانية، وبما يرجح إعادة انتخابها. وبذلك، تتوالى الوقائع الناقضة للشعبوية ولإمكانية إمساك ممثليها بدوائر صنع القرار في أوروبا، مما يعني أن بريكست ستبقى، حتى الآن، خطوة يتيمة في القارة الأوروبية. ويمكن القول إن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أتى في إطار موجة أقرب إلى الفورة العابرة ولو أن مؤيدي بريكست يتمتعون بقواعد شعبية لا يستهان بثقلها في المجتمعات الأوروبية.

وأثبتت هذه الوقائع الأوروبية الفرنسية خصوصاً، أن قدرة موسكو على القرصنة الانتخابية التي بدا أنها أدت بعض الدور في الانتخابات الأميركية، عاجزة عن التأثير في الساحات الانتخابية الأوروبية. ومن هذه الناحية، يعتبر بوتين الخاسر الخارجي الكبير، جراء هزيمة مارين لوبان. كما يعتبر الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي دعم ماكرون، الرابح الرمزي ولو بعد رحيله عن السلطة.

هناك أيضاً خاسر آخر، في الضفة الأخرى للأطلسي. الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، الذي حملته شعبويته إلى الرئاسة، وقد تنعكس هزيمة الشعبوية في أوروبا على حكمه وسياساته الداخلية والخارجية. فهو لم يخف أن لوبان كانت خياره. فوزها كان من شأنه أن يمنحه المزيد من الزخم لتسويق سياساته، المتعثرة حتى الآن، لا سيما في جوانبها الحمائية وتفضيل الرئيس للتعامل مع الدول كأفراد وليس كتكتلات، سواء سياسية أو اقتصادية أو أمنية.

نكسة التيار الشعبوي وهزيمة نزعة الانطواء في أوروبا، تقوّضان حيثيات سياسات ترامب وتعززان موقف خصومه الداخليين، لا سيما في أمور هامة مثل الهجرة والبرامج الاجتماعية، التي يتزايد الاعتراض على سياساته بشأنها، والتخوف من آثارها وعواقبها. وحالة الاعتراض هذه تتفاقم ليس فقط في أوساط خصوم ترامب السياسيين، بل أيضاً من قبل أوساط وجهات تخشى من تداعيات سياسات ترامب على صعيد الأمن الاقتصادي وبالتالي الأمن الاجتماعي. وانعكس ذلك في الصعوبة التي واجهها مشروعه للرعاية الصحية، إذ لم يتمكن من تمريره في مجلس النواب بسهولة، وحصل ذلك بأغلبية ثلاثة أصوات فقط. وقد أثار الكثير من الاعتراضات والإدانات. وليس من المتوقع أن يمر بصيغته الحالية في مجلس الشيوخ.

كبح جماح الشعبوية في أوروبا يعزز، بحكم الترابط في التاريخ والمصالح، من أوضاع خصومها في أميركا وينعش حضورهم السياسي، على الأقل من حيث نقض مقولة أصحابها بأنها لغة المرحلة وهويتها السياسية. وهذا ما لا يطيقه الرئيس ترامب لأنه يأتي بمثابة حكم على عدم صلاحية طروحاته التي يتبين من التجارب الأوروبية أنها غير واقعية ومرفوضة من غالبية الشعب. وأكثر ما يخشاه ترامب هو أن تساهم هزيمة الشعبوية في أوروبا بالحد من فرص تحقيق وعوده الشعبوية.