على ضفاف شاطىء البوسفور، وفي يوم من الأيام المبهجة.. اجتمع الأصدقاء ليشاركوا عروسين مغتربين حفل خطبتهم بعد أن جمعت بينهما ملائكة الحب فى بلاد المهجر. مشهد مبهج رغم بساطته، تسمع دقات قلب العروسين.. ترقص طرباً على أنغام أغنية "يا دبلة الخطوبة".. بهجة الأتراك ونظرات الإعجاب فى عيونهم.. مع ضحكات صافية ارتسمت على شفاه الأصدقاء.. مشاهد كفيلة بأن تخبرك عن صدق اللحظة وجمالها. هنا لامجال لمجاملات كاذبة، نُجبر عليها فى بلادنا.. هنا قدر من المشاعر الدافئة وحسب، لا يحمل المغتربين فى قلوبهم إلا فرحاً صادقاً غير مشروط ولا متصنع.. المغترب يشتاق للفرح كما يشتاق السجين لحريته.. كلاهما ينتظر تلك اللحظة بشغف يمنعه من الزيف أو التكلف..، لكن الواقع يخبرنا أن ليس كل حب يرافقه الفرح.
******
"إننا نموت بشكل متجزئ! يموت الفرح، تموت الذاكرة، تنحني الأشواق ندخل في الرتابة، ثم ننسحب، نشيخ بسرعة، وبشكل مذهل شيء ما يتآكل يومياً في داخلنا ولا نشعر" (واسيني الأعرج).
هكذا وصف الروائي الجزائري، علامات احتضار الإنسان.. وكما هو الحال في الغربة، حيث إيقاع الحياة أسرع من أن ندركه.. سرعان ما انتهت مراسم الخطبة، وتوارت سمات السعادة عن الأنظار، بمجرد أن شردت أذهاننا نحو أوطاننا المفقودة. شيء ما يقتل تلك المشاعر في داخلنا، ويجعل بلادنا حزينة بقدر ما نحبها ونشتاق لذكرياتنا فيها.. تلمس ذلك بسهولة فى عيون الأصدقاء ممن حضروا الحفل، لكل فرد من الحضور رواية وقصة مؤلمة عن سبب اغترابه وفراق وطنه..
منهم من هو مطلوب في قضايا كبيرة في بلاده.. منهم من رُفعت دعوى بسحب جنسيته بسبب مواقفه من الانقلاب العسكري.. منهم من استشهد والده.. وآخر أخوه يحقق أرقاماً قياسية فى الإضراب عن الطعام بسبب اعتقاله التعسفي .. طلبة جامعيون لم يكملوا دراستهم بسبب أنهم مطلوبون لتنفيذ أحكام بالسجن..
ينصرف الناس ويركن كل واحد منهم إلى همه، فجراحنا لم تلتئم بعد. قلوبنا متشبعة بالحزن وألم الفقد الذي أصابنا فى أهلنا وأوطاننا ورفقائنا.. جعل الأشياء تفقد قيمتها.. وأذهب عن الحياة رونقها.. لكن لولا نسيم الأمل ستظل أجسادنا بلا أرواح.. نحتاج أن نتبارى فيما بيننا لإنجاز ما بدأه الراحلون الذين جمعتنا بهم ساحات النضال.. فنخلد ذكراهم ويظلوا في ذاكرتنا أسماءً وصوراً، ليسوا أرقاماً وإحصاءات.
لا شك أننا نحتاج لروح جديدة تسري فى جسد الأموات فتُحييهم من جديد.. تلك الروح التي تلبّست سبارتاكوس.. مالكوم اكس.. عمرالمختار.. تشي جيفارا.. حسن البنا.. نيلسون مانديلا.. وغيرهم الكثير ممن ألهموا العالم وغيروا مجرى التاريخ. المجد لتلك الثلة التي استوعبت الدرس واستدعت تلك الروح وبثتها فى نفوس المظلومين المقهورين في كل مكان، فصنعت من الشتات رحلة.. ومن السجون ثورة.. وألهبت حماس الثائرين فى الشوارع فضبطته وأرشدته إلى عوار الخصم ومواطن وهنه.. فإذا ضربت أوجعت.
هذه الروح لن نستجلبها إلا إذا أفصحنا عن ما بداخلنا من (الأمل الشجاع) الذي نستدعيه وقت الشدة.. فهو الذي يجعلنا نبتلع مرارة الغربة، وضيق السجون، وفقدان الأمن والطمأنينة، أملاً من صفاته أنه واعٍ يميز الحق من الباطل، والغث من السمين.. وشجاعاً بما فيه الكفاية لنخوض به غمار الحياة..
ختاماً هناك شعور بالفرح لم ننسَه يوماً..
فرحة أول هتاف للثورة "الشعب يريد إسقاط النظام".
فرحة الجماهير الهادرة التى اهتزت لها الميادين، تزأر ضد الأنظمة المستبدة فأرعبتها وأرعدت فرائصها.
يا سادة نحن لم يعد أمامنا إلا أن نعيش على هذه الذكرى.. وأن تظل هذه الأصوات محفورة فى أذهاننا..
إن كان اليوم في شوارع المحروسة و حارات الشام وطرقات ليبيا وساحات تونس واليمن، من ينتفض ويصول ويجول ليكسر شوكة طاغية، أو يحافظ على ثورة نقية دُفع لها من دماء الشباب وأرواحهم الطاهرة ثمنٌ غالٍ، فهؤلاء من يقصدهم محمود درويش حين قال: "وإذا جاءك الفرح مرة أخرى، فلا تذّكرْ خيانته السابقة.. أدخل الفرح وانفجر!".
*مصر