خليل رعد: فوتوغرافيا لحياة لم تعد يومية

03 يوليو 2020
من صور خليل رعد (أرشيف)
+ الخط -

كانت الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ التي صنفتها أخيراً إحدى المجلات العالمية بكونها أشهر النساء الأميركيات الأكثر تأثيراً خلال القرن العشرين، من أوائل من فطنوا مُبكراً إلى قوة الفوتوغرافيا وسحرها وقدرتها على التأريخ للرجّات التي طاولت القرن العشرين، مقارنةً بصنوف أخرى من الصور الفنية والسينمائية والأدبية.

لذلك، عملت في كتابها حول الفوتوغرافيا بشكل شذريّ على ترسانة مفاهيمية تخدم هذا المشروع التوثيقي، انطلاقاً من مقاربة تجارب فوتوغرافية عالمية تمازجت فيها الرؤية الكولونياليّة والأيديولوجية والتوثيقية والجمالية، بسبب السياقين التاريخي والأيديولوجي الذي كُتب فيه الكتاب، وهذا الأمر المُتصل بالفوتوغرافيا الغربيّة، تتشارك فيه مع جملة من التجارب الفوتوغرافية العربيّة الأولى التي راهنت على الجانب التوثيقي والتأريخي لأحداث وقضايا من خلال القبض على وجودها داخل صورة فوتوغرافية ثابتة، كما هو الشأن لدى المُصوّر الفلسطيني خليل رعد (1854-1957) الذي يُعَدّ عميد الفوتوغرافيا الفلسطينيّة، نظراً إلى الدور الكبير الذي لعبته صُوره في التوثيق للحياة الاجتماعية الفلسطينيّة قبل النكبة، تجعله اليوم في طليعة المصوّرين العرب الكبار القلائل الذين ذاع صيتهم مشرقاً ومغرباً.

يعود هذا إلى كون مدونته الفوتوغرافية، تُشكل اليوم تراثاً بصرياً غزيراً وهائلاً، تُسعف الباحث العربي في فهم الكثير من ميكانيزمات الشخصية الفلسطينيّة وملامح من حياتها الاجتماعية والثقافية قبل النكبة. فخليل رعد عمل من خلال هذه المُدونة الفوتوغرافية على التأريخ للحياة الاجتماعية بالطريقة التي أصبحت معها صوره وكأنها مسحٌ كارطوغرافي لطبقات مُتخيّلة لتمثيل المرأة والحياة اليومية وللتراث الشعبي داخل فلسطين، طالما اعتبرت هذه المدونة من لدن الباحثين العرب على قلتهم، الأكثر صدقاً وجمالاً وبراءة في تقديم الحياة الاجتماعية الفلسطينيّة، مقارنة بالأعمال الاستشراقية المؤدلجة التي لم تخدم في مدونتها الفوتوغرافية إلّا طابع التوسع الاستعماري داخل البلاد العربيّة، تُغذيه بعض الأطروحات المعرفية التي دبجها مستشرقون في مجال الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، منذ نهاية القرن التاسع عشر حول الشرق المُتخيّل. وهذه النظرة الاستعمارية والغرائبيّة للبلاد العربيّة، لم تظل حبيسة الفوتوغرافيا، بل امتدت وتشعبت لتحاصر حتى مجالات أخرى من قبيل التشكيل والأدب.

أما مع خليل رعد، فإن الفوتوغرافيا لديه لا تنطلق إلّا من فعل تلقائيّ وذاتيّ يجعل طرائق تشكلها وممارستها التصويرية، مرادفاً بلاغياً لتمثل الذات وبوحها الصادق تجاه التاريخ والمفضاء والإنسان، وهي تخترق الجسد الاجتماعي الفلسطيني لتُعيد مُجدّداً عملية البناء وفق تصورات فنية وجمالية، لا تتقيد بالسياق التاريخي، بل تنطلق من خصوصيات كينونة خليل رعد الإبداعية وكيف يتصوّر شكل الحياة قبيل النكبة، من طريق صور حكائية مُكثفة بصرياً وعريقة زمنياً، بحيث إنّ التاريخ، لا يلبث يظل يسري هسيسه داخل جسدها ومسامها. المتأمل في التراث الفوتوغرافي عند خليل رعد، يكاد يتلمس خاصية ملازمة لصُوَرِهِ، هو ركونها وراء مفهوم التاريخ الذي يشتغل كسرديّة تاريخية لملامح الحياة الاجتماعية الفلسطينيّة خلال الحقبة الحديثة، لكن هذه الصور لا تهتم بالقضايا السياسية الكبرى، بل تتنصل من هذا الطرح والمعالجة الجمالية، بقدر ما ترتبط بهذا المخزون الرمزي الجميل من حياة الفلسطينيين والمتصل باجتماعهم وحياتهم اليومية البسيطة الضاربة في تيجان التاريخ. هنا تُصبح الفوتوغرافيا عند خليل رعد، في بعض جوانبها، أشبه بالحفر داخل هذا التاريخ والتقاط تفاصيل شذرية صغيرة ومحاولة جعلها تتخذ ناصية كبيرة من هذا المركز أو الحياة داخل المرئي، وحتى هذا الالتقاط للمُهمش البصري واللامفكر فيه داخل الحياة الاجتماعية، يغلب عليه الطابع التأريخي في نقل هذا الواقع، الشيء الذي جعل من تجربته لا تخرج عن جماليّات الأعمال الفوتوغرافية العربيّة الأولى، بسبب حساسيتها وحرارتها في نقل الواقع بكل تقريرية.

لذلك طالما اعتبر هذا النوع من الفوتوغرافيا الأهم لدى المؤرخين، ممن تلمسوا طريقهم إلى كتابة التاريخ العربي الحديث منه والمعاصر من منطلق الأرشيف البصري، مع العلم أننا نعتبر أن هذا الوفاء للتصوير الواقعي الساحر، يشكّل في حدّ ذاته ميزة جمالية كبيرة للجيل الأول من الفوتوغرافيا العربيّة، مقارنة بالأجيال الأخرى التي عملت على منح الفوتوغرافيا آفاق جمالية أخرى تتعدى حدودها الفنيّة، متمازجة مع أعمال تشكيلية مُركبة، تتجاوز أفق اللوحة المسندية، لتجد رحابة وجودها الفني داخل أفق مفتوح هو الفضاء العمومي. ومع ذلك، ظل هذا الإرث الفوتوغرافي عن خليل رعد من الجوانب الأخرى المرتبطة بالبورتريهات ذات الأبعاد التقنية التي أنجزها خليل داخل الاستوديو للعديد من الشخصيات السياسية في ذلك الوقت، يبدو وكأنه مجرد حكايات وهذا الأمر بالذات، هو ما جعل بعضاً من الباحثين، يعتبرون أنّ فوتوغرافية خليل رعد تأريخية أكثر منها فنيّة، لأنها ظلّت تستند إلى مفهوم التاريخ كمروية أو سرديّة، من دون أن تحفل بالجانب الجمالي من هذا الواقع الاجتماعي، مع العلم أن هناك صوراً أخرى كانت الأكثر جمالاً وتعبيراً وصدقاً، وهي تهمّ التقاط وتصوير تفاصيل لباس المرأة وجمالها وحياتها البسيطة، التي تنمّ عن شغف الحياة وقوة التاريخ ومدى حضوره داخل الحياة اليومية الفلسطينيّة قبل النكبة.

 قد لا تقوى حتى التجارب الجديدة وبتوفرها على أنظمة إلكترونية من توثيق، جمالياً، هذا الكمّ الهائل من الصور، هي في أساسها حكايات، تشتغل كصيرورة جمالية، لا تنفصل عن مسار التاريخ الفلسطيني الحديث والاهتمام بتفاصيل اللحظة وجماليّاتها، وجعلها تخرج من براثن التاريخ لتسمو بنفسها عن المحاكاة، ما يجعلها من منظور آخر وبشكل خفيّ مُتخيّلة بالنسبة إلى عين أخرى معاصرة، لأنها بالكيفية التي خرجت بها من هذا التاريخ كأرشيف جامد ارتبطت معه بمفهوم الذاكرة ومسالكها الجمالية.

المساهمون