ثمّة أكثر من رواية حول ظهور أول صورة فوتوغرافية في العالم العربي؛ إذ يُرجعها بعضهم إلى عام 1839 حين التُقطت لمحمد علي باشا في قصره بالإسكندرية، بعد وصول أوّل آلة تصوير من فرنسا إلى مصر، وتشير روايات أخرى إلى أن الرحّالة المستشرقين ربما صوّروا القدس والبتراء قبل ذلك بعدّة سنوات.
لكن الثابت أن الصور الأولى التقطها أوروبيّون توافدوا إلى المنطقة بأعداد كبيرة، كما يُثبت العديد من المراجع التاريخية، مدفوعين بـ"سحر الشرق" ورغبتهم في تصوير الأماكن المقدّسة، وإلى جانب هؤلاء كان العسكريون من أوائل من وثّقوا بالكاميرا زياراتهم إلى مدن عربية.
في الأثناء، توجّه الأرمن في الدولة العثمانية لدراسة التصوير وتلقوّا تدريبات عملية في أوروبا قبل أن يتوزّعوا في أنحاء العالم ويؤسسوا استوديوهاتهم، ومنهم غرابيد كريكوريان الذي عرف كأول من افتتح استوديواً فوتوغرافياً في مدينة القدس عام 1885، وتتلمذ على يده خليل رعد الذي سيرتبط اسمه بالبدايات الحقيقية للتصوير في فلسطين، فيُعتبَر أوّل عينٍ فوتوغرافية ترى فلسطين من داخلها. وقد وثق الفنان والمؤرخ الفني الفلسطيني كمال بلاطه تجربة خليل رعد في كتابه المرجعي "استحضار المكان" (2000).
تجربة المصوّر الفلسطيني (1854 - 1957) يستعيدها معرض "فلسطين في الزمن الجميل" الذي افتُتح في "المركز الألماني الفرنسي" برام الله في السابع عشر من الشهر الجاري ويتواصل حتى نهايته، بتنظيم من "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية"، و"مؤسّسة شغف"، وتمويل "صندوق الثقافة الفلسطيني".
يقرّر خليل في تسعينيات القرن التاسع عشر، بعد أن درس فن التصوير في مدينة بازل السويسرية، أن يفتتح استديواً خاصّاً في شارع يافا قبالة استوديو أستاذه، لا لينافسه فحسب، إنما لينافس مصوّرين آخرين قدموا من الولايات المتّحدة والسويد وروسيا وبلدان أوروبية وأقاموا في المدينة المقدسة.
وقد اقتصر اهتمام المصوّرين الغربيّين الذين زاروا فلسطين أو أقاموا فيها، خلال تلك المرحلة، على تصوير الأماكن المرتبطة بتصوّراتهم التوراتية حول كثير من المعالم الدينية، ومشاهد من الطبيعة أو المدن في مناطق مختلفة، سعياً لإبراز "بدائيتها" وتخلّفها عن ركب الحضارة.
يقدّم المعرض صوراً مختارة من مجموعة المصوّر الفلسطيني، والتي تمتلك "مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة" جزءاً كبيراً منها، ويفوق عددها الأصلي ثلاثة آلاف صورة توثّق لمختلف جوانب الحياة في فلسطين، في الأرياف والمدن على حد سواء، والتغيّرات السياسية خلال فترتي الحكم العثماني "والانتداب" (الاستعمار) البريطاني، فضلاً عن المناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية في المدن والقرى والمواقع الدينية والأثرية، وتضمّ أيضاً صوراً لشخصيات بارزة وأحداثاً عامّة.
يبدو أن اهتمام رعد بتوثيق الحياة الاجتماعية بدأ عشية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، بعد أن أصبح مصوّراً معتمداً لدى السلطات العثمانية ومقرّباً منها، والتقط العديد من الصور للدوائر الرسمية والمنشآت العسكرية بطلب منها، حيث انطلق في مشروعه ضمن رؤية وتخطيط مسبقين كما يُظهر سير تنقّلاته داخل فلسطين، مسجّلاً تفاصيل دقيقة، وحتى في زياراته إلى مصر وسورية ولبنان.
تُظهر بعض الأعمال أفراداً يمارسون ألعاباً تقليدية مثل "الضاما"، وتضيء اختلاف الأزياء والنسيج وطراز البناء والعادات بين منطقة وأخرى. في إحدى الصور، يرصد خلالها عائلة تُبحر في قارب وسط مياه بحيرة طبرية، ويَظهر في ثانية رجل يسير قرب نهر الأردن، وفي ثالثة عمّال على شاطئ يافا، وفي أخرى أناس يتسوّقون في شوارع القدس.
تسجّل الصور محطّات بارزة في تاريخ فلسطين منها زيارة الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني إلى القدس عام 1898، و"دخول" الجنرال البريطاني اللنبي إلى القدس عام 1917، إلى جانب التقاطه مشاهد تساهم في توثيق الذاكرة الفلسطينية قبل الاحتلال الصهيوني مثل اصطفاف أناس أمام صندوق الفرجة، ومشاهد المحال التجارية والمؤسّسات الحكومية وغيرها.
استطاع رعد تهريب جزء من "نيغاتيف" معظم أعماله عام النكبة بمساعدة صديق إيطالي ثم تفرّق أرشيفه، حتى تمّ جمع معظمه، والذي يغطي جانباً مهمّاً من الحياة في فلسطين بين عامي 1891 و1948.